مايو 15th, 2014 بواسطة إباء اسماعيل
الشاعر و الناقد العراقي القدير عيسى حسن الياسري
” أيها العميق … البعيد
كحبة القلب
كتفاحة الشمس
في الجسد البهي
كم أشتاق عصفك الحنون ….. “
– تفاحة القلب ..من مجموعة خيول الضوء والغربة –
*منذ مجموعتها الأولى – خيول الضوء والغربة – الصادرة عن وزارة الثقافة السورية عام 1999 مرورا بمجموعاتها – أغنيات الروح – 2001 .. و – اشتعالات مغتربة – 2007 و – صحوة النار والياسمين – 2009 وصولا إلى مجموعتها الأخيرة – أنت َ طفولتي في القصيدة – 2011 .. والشاعرة إباء اسماعيل تتجول في عوالمها الشعرية .. التي تشكل لها بيتا وملاذا تحتمي به من الذكريات الموجعة التي ترفض أن تخلد للراحة .. ومن حضور مغتربها ذلك الضيف المحزم بجليده ووحشته التي تنكأ الذاكرة لتجعلها أشد يقظة وضراوة ..من هنا لم يتبق لها سوى بيتها الشعري تأوي إليه الروح المغتربة .. هربا من ملاحقة ذكريات الأمس التي لا تشيخ أو تهرم .. ومن التيه في مدن المنفى التي تتدثر بالثلج والضباب ..وتكون فيها الشمس زائرا يتعجل الرحيل .. هذا الإحساس المعذِب بمواجهة الواقع الأغترابي الجديد ترك بصماته الواضحة على تجربة الشاعرة .. كما أنه أعطاها سمتها المميزة جماليا .. وتشكيلها الخاص للوحة القصيدة .. وقاموسها اللغوي الذي يجمع بين انسيابية الجملة الشعرية وبساطتها .. وبين احتمائها بتركيبات تقترب من تأسيسات الكتابة السوريالية .. التي تعتمد آلية بنائية لا تتوقف كثيرا عند الجملة ودونما قصدية ظاهرة.
أن أهم الدعائم التي ترتكز إليها تجربة الشاعرة – إباء – هي تلك المتمثلة في الطفولة .. والغربة .. ومن ثم الحنين إلى الجذر الأول .. من هنا يبرز المكان كتشكيل يشغل مساحة مهمة من نصوص الشاعرة .. حيث نتلمس مدى أثر هذا المكون السحري على منتجها الإبداعي لغة وأبنية فنية .
إن ّ الكتابة الشعرية خارج المكان تجهض التجربة .. وتقود الشاعر إلى الخوض في متاهات اللغة والتجريد المفرغ من شرطه الفني .. فالمكان هو الحاضنة الشرعية للتجربة .. ومتى ضيع الشاعر خارطة المكان .. اختلطت عليه الجهات .
والمكان في النص الشعري أكثر شبها بزمان الشعر فهما يختلفان عن مفهومهما التقليدي .. ويتحولان في اللغة إلى ظل لمعنى متخف وراء الكلمة ..ومن هنا نتعرف على سر سحرهما الجمالي .. هذه الفرضية النقدية التي لا زمتنا منذ عصر نقادنا القدامى حتى يومنا هذا .. تشكل حضورا مهما عند الشاعرة .. وسواء أكان هذا الحضور متحققا في الوعي المستيقظ .. أو شكل بطريقة لا واعية .. ففي كلا الحالتين يظل المكان ضرورة لا يمكن تنحيتها جانبا اوالقفز من فوقها .. من هنا نجد أن الشاعرة تتوحد في معظم نصوصها مع موطئ القدم
الأول .. وكأنها جزء من تضاريسه التي وطأتها أقدامها طفلة وصبية وشابة ..
الأول .. وكأنها جزء من تضاريسه التي وطأتها أقدامها طفلة وصبية وشابة .. فحملتها معها كما يحمل المسافر زوادة سفره .. والجرح دمه النازف ” :
” الطفلة القادمة من بلاد الشمس
تجلس في حضن الثلج
يلفها بجناحيه البيضاوين
ويطير بعيدا ………………… ” من مجموعة .. اشتعالات مغتربة 2007 “
هنا نواجه بتضادية مكانية مربكة بالنسبة للشاعرة .. إنها انتقالة أكثر شبها بحلم مركب .. حيث التصادم اللامتوازن بين مكانين متغايرين .. مكان تجلس على عتبته الشمس .. ومكان جديد تتكدس فوقه الثلوج .. هذا الامرسيكون عاديا بالنسبة لمهاجربسيط يصله هاربا من ظروف أكثر وجعا .. لكن عند الشاعرة يكون الامر مختلفا .. إذ ومهما كانت قسوة المكان الأول التي تجعل من الهجرة عنه ضرورة .. تظل شمسه الدافئة تعيش في مخيلة الشاعرة .. وتكون أكثر حضورا عندما تجد نفسها محاطة بالثلج الذي ينشر العظام .. وهذا بحد ذاته عامل مهم يشعل في أعماقها الحنين إلى شمسها الطيبة .. مهما وفر لها المكان الجديد من وسائل يفتقر إليها المكان الأم .
ليس الشمس الدافئة التي تركها المهاجر وراءه يفتقدها وحدها .. وتوجعه في حضورها المتخيل أو المتحقق بخجل .. بل كل ما يحتضنه مكانه الأول .. من البحر والجبل إلى الياسمين:
” يشاهدني قاسيون
كطفرة نور غريبة
أطير على مفرق الصبح والياسمين
الذي ياخذ النور من وجنتيك ………. “
وقاسيون وكما نعرف جبل تتكئ عليه دمشق كلما أتعبتها حركة النهار الضاجة .. جبل مادته حجارة صامتة .. مكشوفة للشمس والرياح .. لكن الشاعرة هنا .. ومن خلال سحب هذا المكون الجامد إلى حيث منطقة الشعر .. فإنها تضفي عليه حالة من الأنسنة .. وتمنحه حياة لا وجود لها إلا في العملية الشعرية .. قاسيون هنا كائن حي .. ينهض حاملا حجارته على كتفيه .. ويتطلع نحو الشاعرة .. يغمرها بنوره البهي هو المعتم .. يمنحها جناحين تطير بهما كفراشة تمتص رحيق الياسمين .. الذي يشكل عطر دمشق المميز وعلامتها الفارقة .. وزينتها التي لاتقترب منها كل منتجات التجميل .. ورغم كل هذا الجمال الباذخ للياسمين .. فهو لا يكتفي به .. لذا يمد كفيه الحنونتين ويغترف حفنة من نور وجنتيها .. فهل تفعل معها التكوينات الجامدة في مكانها المستحدث ما يفعله معها – الجبل الحجري قاسيون – الذي يخلف رداءه الصلب والشائخ .. ليتحول إلى طفل يلهو بوجنتي الشاعرة بكل حنوه وألفته .. ؟ .
من هنا تبدأ أزمة الشاعرة .. التوحد مع المكان الأول ..وعجز المكان الجديد أن يوفر لها الوسيلة الإنقاذية للتخفيف من تشظي عالمها .. وتكون هذه الأزمة أكثر تعقيداً عندما تجد نفسها عاجزة عن القيام بعملية توليفية تؤاخي بين المكانين لتمنح حياتها القلقة شيئا من التوازن والأنسجام النفسي .
إنه الداء العصي على اكتشاف العقار الشافي له أو المهدأ لأوجاعه على الأقل ..
يقول الشاعر الإيطالي – سلفاتوري كوازيمودو – :
” لا يصبح الشاعر موجودا ً إلا بعد تجربة قاسية مع ماهو خارج الطبيعة الإنسانية “
وهل هناك ما هو واقع خارج الطبيعة الإنسانية أكثر من مواجهة المنفى .. واستحالة العودة إلى الجذر ..؟
العبء الآخر الذي تنوء به تجربة الشاعرة والذي لا يقل جحيما عن جحيم المنفى هو عبء الطفولة التي لا تريد أن تغادر مواقعها .. فالشاعرة تكبر في الزمن التقليدي الذي يشترك فيه الجميع .. وينالها منه ما ينال الآخرين .. حيث يواصل قضمه لأكثر حقولها دهشة ونضارة بأسنانه الشبيهة بأسنان أسراب الجراد الصحراوي .. لكن وإذا كان الآخرون يستسلمون لأسنان الزمن .. فإن الشاعرة لا تستسلم بهذه السهوله .. لأن الطفل يظل يلهو ويلعب في أعماقها غير عابئ بكل ما حوله .. إنه يتخفى في أكثر الأماكن تحصينا وأمنا والتي لا يكون بمقدور الزمن أن يقترب منها .. طفولة الشاعرة موطنها القلب الذي لايسلم قياده لأضراس هذا الكائن الأكول الذي لا يشبع .. والذي يلوكنا على مدار الساعة .
ولكي تروض الشاعرة الطفولة المشاكسة .. وتجعلها أقل إنهاكا لها .. تدخلها منزل القصيدة المؤثث تأثيثا مغريا .. ويساعد على الإمساك برغبات الطفل وإشباعها .. وهذا ماجعل الطفولة تحقق حضورها في مجموعة شعرية كاملة هي ” أنت َطفولتي في القصيدة “
والضمير – أنت – ترك مفتوحا لتطل منه الشاعرة على أكثر الفضاءات إتساعا .. فهو بعيد عن التخصيص والشخصنة المنكشفة .. وهذه هي إحدى تقنيات الكتابة الشعرية لدى – إباء اسماعيل – إنها تتحدث عن – الحب – بشمولية مطلقة .. وتترك لمخيلة المتلقي حرية الأختيار وفق خزينه المعرفي ..وطاقته المستقبلة .. فهي قد تتحدث عن – حبيب – يشكل حضورا في حياتها المعيشة .. وقد يكون طفولتها الملتصقة بها .. وقد يكون مكانها الأول الذي يشكل فردوسها المفقود .. إنها تتناول موضوعة الحب بصوفية واضحة :
” ألفي ويائي وهمزتي
بشائر مقاتلة
منك وفيك .. في ّومني
ومن توأم غربتنا نزفت حروبها …. ” .” أنت طفولتي في القصيدة “
ولكي تتضح خرائط صوفيتها وتصبح أكثر تجليا في النص الشعري .. فإنها تنحي كل ّ حسية ظاهرة جانبا ً .. ولا تتحقق هذه الصوفية الشعرية إلا بعد رحلة طويلة .. رحلة معمدة بأكثر المكابدات إيلاما ووجعا .. إنه الأعتكاف الروحي في – صومعة مكانها الأول – متأملة باحتمال الرهبان المنقطعين إلى مناجاة المعشوق .. كل ّ دروب ومنعطفات هذه الرحلة الشاقة .. وبالرغم من أن قصيدة الشاعرة موضوعا ً وتقنية قد تحولت في مجموعتها هذي .. إلا أنها لم تقطع صلتها بمنجزها المتمثل في مجموعاتها الأولى .. فإذا كان النص المتقدم يتسم بالأنفعال الواضح الذي يكشف عن مكابدات الشاعرة ومعاناتها .. إلا أنها وفي آخر مجموعاتها المشار إليها أعلاه .. تحولت إلى النص الطويل ذي الصوت الخافت والبناء الملحمي والتوظيف الدرامي الواضح .. لكنه .. وإذا ما خرج عن بنائية نصها الأول فقد ظل مرتبطا معه بآصرة الجملة القصيرة والمكثفة .. فالنصوص تظل في جميع مجموعاتها .. نصوصا مفتوحة ومكثفة ومقتصدة في لغتها .. مما يجعل المتلقي يواجه بوحدات بنائية تكاد أن تكون مكتفية بذاتها إذا ما انفصلت عن سياق النص الكلي .. وهذه سمة بنائية صوفية تعتمد كدلالة على انكشاف الوعي الرؤيوي عند الشاعرة :
” لكنها حقا ً
تحب الله جدا
وتحبك َ في الحب
وفي الله
وفي القصيدة …………… ” .
فهل وجدت الشاعرة – إباء اسماعيل – في صوفيتها صدرا حانيا .. يسارع إلى ضمها إليه كلما حضرت عاصفة الحنين والشجن من جهة إشراقات طفولتها .. وكلما حدقت ببقايا عشرين زهرة من عمرها وهي تتفتت تحت ثقل آلام جلجلة منفاها … ؟ .
” عشرين زهرة من عمري
بعثرتها هنا …….. ” .
إن منجز الشاعرة – إباء اسماعيل – الشعري .. يشكل إضافة مهمة لما تنتجه المخيلة الشعرية التي تنوء تحت ثقل أوجاع المنفى وهمومه المؤرقة .. وهو شعر – منفى بامتياز – حيث تحس من خلاله هدير عاصفة الخراب التي تجوب كل خلية من خلايا الشاعرة .. لذا فهي لاتملك إزاء أزمتها الوجودية هذي إلا أن تجعل من قصيدتها ذات الحس الصوفي المأوى الحاني .. والملاذ المواسي .
عيسى حسن الياسري – إباء اسماعيل و طفولة الشِّعر
كتب في قسم: فضاءات نقدية | تعليق واحد | 3٬821 views
تعليق واحد في “الشاعر و الناقد العراقي عيسى حسن الياسري يكتب : إباء اسماعيل ..و طفولة الشِّعر”
شهادة حق تقال من عارف صادق بحق شاعرة جميلة تستحق الكثير الكثير .. انصافا لها وانصافا للشعر وللكلمة الخضراء ..