الناقد المصري الأستاذ حسن الحليلي يكتب دراسة نقدية حول قصيدة ” لستُ الأميرة.. أنا ظلُّ شجرةٍ في وطنْ مَنْفيّ”
فبراير 26th, 2020 بواسطة إباء اسماعيل
الشاعرة الرائعة اباء اسماعيل فى قصيدتها المتميزة ( لستُ الأميرةَ .. أنا ظل شجرةٍ في وطنْ منفيّ ) تأمَّلْ معي هذه الدفقة الشعورية التي تصبُّ فيها شَوْقَ الوطن المغيب
منْ قالَ بأنِّي أُطفئُ شجرَ البرقْ؟! ..
وهو أنايَ التي تأخذني
إلى حرائق الورد المشتَهى،
وسمائي التي تطْفحُ
بطيورٍ مهاجرةٍ
إلى أقصى الأوطانِ المُغَيَّبةْ…
مَنْ قال بأني أُدْمي سنابلَ الحُبِّ
وأرفرفُ كطيرٍ مذبوحٍ على
قِمَّة أشعاري؟!
لا تُصيبُني الفصولُ بنشْوةِ الموتْ؟!
ها هي الأحرفُ التي تستنزفُني
قامتْ مِن مَوتها،
وتحدَّثتْ عن شهوةِ القلبِ
قبلَ اشتعالِ هذيانِهْ ..
**
تأمَّلْ معي في اختياراتها لبعضِ مفرداتها:الورد المشتهى \ سمائى التى تطفح \بطيور مهاجرة .إلخ. االاوطان المغيبة هي تلك الزوائد الطرفية التي تمدُّها النباتات المتسلقة لتلتفَّ حول الدعامات التي تتكئ عليها كي . ألمْ يكن بوسْع الشاعرة أن تستبدلَ هذه اللفظة بمُفردةٍ أخرى تؤدي نفس المعنى وارفرف كطير مذيبوح على قمة اشعارى .؟! كان بمقدورها بالطبع، إن كان جلُّ عنايتها توصيل المعنى للقارئ فقط، لكن شاعرتنا تطمحُ إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، إنها تسعى إلى توليد الصورة التي هي أبلغُ وأقدرُ على التعبير من ألف كلمة، واستحضار هذه الصورة في مخايلنا بكلِّ ما تنطوي عليه من إيحاءات ودلالات. فأنت حين تقول إوارفرف كطير الى حرائق الورد المشتهى . في قولك الأخير صيغة تشديد توحي بأنّ إحاطتهم به كانت أشبه بالحصار المفروض من حوله، فيها تصميمٌ وحميميَّةٌ وتشبُّثٌ أكثر.
الصورة الدالَّة الموحية هي ـ إذن ـ وحدة المعمار والبناء في هذا الشعر وليسَ التقرير والمباشرة. فالشاعرة لا تريدُ أن تُصادرَ على خيالنا بمقولاتٍ ونتائجَ جاهزةٍ ومُعَدَّةٍ سلفاً للاستهلاك، بل هي تتوارى خلف صورها وتتركنا نحن لنتأمَّل المشهد بكل حواسّنا ونُعيدُ خلقه من ذواتنا ورؤانا وخلفياتنا من الخبرة والثقافة والتذوّق.
ما الفرق بين شاعرة كهذه تلتزمُ الحيادَ ظاهريّاً وتتركُ للمتلقي حُريّة التصور والتخيل والانفعال، وبين شاعرٍ آخر يُحيطنا عِلْماً بآخر ما توصّلَ إليه من خلالِ رِتْلٍ من العبارات التقريرية التي لا تقوم بأكثر من توصيل المعنى والرؤية إلى القارئ..؟!
الفرق جوهريٌّ وواضحٌ للعيان.ففى شعر اباء اسماعيل شان يتحوّلُ القارئ من مجرّدِ متلقٍّ سلبيٍّ ومُستهلكٍ فقط للعمل الفنيّ إلى مُشاركٍ إيجابيٍّ وفَعّال في التجربة وفي صياغة هذا العمل الذي يتحوّلُ من خلال كل قراءةٍ إلى كَمٍّ لا نهائيٍّ من الأعمال بعدد قرّائه وعدد قراءاتهم له. من هنا يكتسبُ العمل الفنيّ قدرة أكبر على التعبير والتأثير في نفس القارئ وتوصيل الرسالة إليه.
لكن الشاعرة اباء لا تقنعُ بذلك ولا تكتفي. فإذا كانت قد تخيَّرتْ الصورة الشعرية لتكون وحدة بناءٍ لقصيدتها، فالسؤال الذي نطرحه الآن على أنفسنا هو: أية صورة تقدمها لنا الشاعرة في شعرها..؟!
تأمّلْ معي ذلك السّيْل المنهمر من الصور وما تحمله من استعاراتٍ وكناياتٍ تثري بلاغتها ـ مع غيابٍ كاملٍ للتشبيه لأنه أقلّ الأساليب البلاغية تأثيراً لا تصيبنى الفصول بشوة الموت\ها هى الاحرف التى تستنزفنى
لاحظ المقابلة بين كُلٍّ من وتحدثت عن شهوة القلب \قبل اشتعال هذيانة لاحظْ أيضاً صلة النسب والقرابة بين كلٍّ من: فى جمرات قصائدنا المشتعلة \ ثم أنظرْ كيفَ أنَّ الشاعرة لا تكتفي بهذه الدلالات الذهنية فتشكل منها الصور الأكثر بلاغةً وتأثيراً: فهي عتمة الحلمِ المحظور، ورقُّ الأقمار التي تُطلُّ وتراقصُ وتنعى وطن قلبها المُعَنّى بالالام ، وارتعاشات الكلمات التي تتحالقُ بمدارات القلب، وأجنة الآمال التي تتناسلُ بمداد الحلمِ وتتراقصُ شغفاً بأرحام اللقاء. مستويات متعدِّد من التشكيل الصُّوَريّ تُكوّن جزئيات المشهد. والصور هنا تعبيرية في غير تجريد، تركيبية في غير تعقيد، لأننا نُعايشُ بأنفسنا تكاثفها مع بعضها البعض واستواءها خلْقاً جديداً.
تأمَّلْ معي الآن هذا المقطع القصير ـ الذي يخطفُ البصر مثل ومضة برْقٍ ويُلْهبُ الحِسَّ مثل قصفة رعْد ـ من نفس القصيدة
نحن هنا أمام شاعرةٍ تكتب الشعرَ بمخَيّلة شاعرْ وريشة رسّامٍ وإزميل نَحّات أو مَثّالْ.
***
الاحظ ذلك الارتباط الحسّي بين النعاس والاختمار، فاختمار العجين أو الطمي هو تحوّلٌ إلى الطراوة واللدانة وانبعاث الغازات فيما يشبه خدر النعاس والتثاؤب، وبين الحُزن والبهار فللحزن في القلب وخز موجع وألم ممض وظلٌّ قاتمٌ مُقبض، وللبهار لونٌ غامق وطعمٌ لاذعٌ حَرّيفْ . صلة قرابةٍ لا يمكن إدراكها إلاَّ بالحَدْسِ والملامسة الحسّيّة لأنها تقع خارجَ نطاق العقل الواعي . ثم لاحظ مستويات تشكيل الصورة من التركيب بالاستعارة والكناية إلى التكثيف ثم التجسيد ثم استواء الخلق وانبثاق المعنى والدلالة. فعلى مستوى أبسط من مستويات البلاغة يكون للعينين لون النعاس أو الاختمار وتظل الصورة بليغة مع ذلك، لكن الشاعرة لا تقصدُ الإبهارَ أو البهرجة وإنما تطمحُ إلى خلق العالم الشعْريّ المتكامل بذاته، الممتلئ بالمعنى والإيحاء والدلالة. فهي تزاوج بين لون النعاس والاختمار معاً، ثم بين لون الحُزنِ والبهار معاً، ثم تضفرُ من كل هذا جديلة واحدة تتماوجُ فيها كل درجاتِ هذه الألوان وتتضافرُ تأثيراتها الحِسّيّة في آن واحد، فتفعل فعلها في مخايلنا ومداركنا.
الصورة هي وحدة بناء القصيدة ومن مجموعة الصور يتألف المشهد ومن تجاور المشاهد وتشابكها مع بعضها البعض يتشكل العالم الشعريّ وتولد القصيدة. لقد تأمّلْنا بعض الوقت في الصورة، فدَعونا الآن نُنْعم النظر قليلاً في هذا المقطع ـ المشهد من القصيدة:
” سأطيرُ إلى آخرِ البرقِ في سمائِنا
لأننا طيرانِ من وردٍ ودماءٍ
سنرتفع فوقَ سحابِ الأمنياتِ
لنسْمو إلى عمقِ المدى
ونصرخُ في وجعِ الأوطانِ المُسْتَباحَةْ…
نسكنُ رعشةَ الحلمِ
في سكْرَةِ الشِّعرِ النبيلْ،
نَخرجُ من قبَّعتي طيرين
في فضاءِ اللغاتْ ..
و مهما كسَّرتْ أرواحَنا
رياحُ البشَرِ العاطلينَ عن الأحلامْ،
سنظلُّ هُنا
لنا ما نشْتهي
من رحيقِ الأملِ
وبذورِ الجنونِ الذي
يشتعلُ في قصائدِنا
حيثُ الوطنُ ذروةُ العِشْقِ
في جمراتِ قصائدِنا المُشْتعلةْ! ..
_______________كلُّ مقطعٍ بالقصيدة يُشَكّلُ مشهداً قائماً بذاته ـ أشبه بـ “الإبيجراما” Epigram مع فارقٍ واحدٍ هو أنه لا يَحْمِلُ في ثناياه أية موعظة أو حكمة أو قول مأثور مثْل “الإبيجراما” فالشاعرة لا تقصدُ شيئاً من هذا، غاية ما تدْعونا إليه هو أن نشاطرها ما تجود به مُخَيّلتها من تصاوير وأخيلة حِسِّيَّة تتدَفَّقُ على وَعْيها كانهمارِ المطرِ وفيضانِ النّهْر، لكنها لا تُقَدِّمها إلينا في مادَّتها الخامْ، بل تُعيدُ صياغتها وتشذيبها وصَقْلها وتهذيبها لتصلَ إليْنا رائقةً مُصَفّاة لا تُبْهِرُنا وتثيرُ دَهْشتنا فَحَسْب، بل تتسَلّلُ إلى أحاسيسنا ببطءٍ وأناة لتُحْدثَ أثرها فينا. ولكن أيَّ أثر..؟!
الغريب حقّاً أنه رغمَ ذلكَ الخدر الناعم اللذيذ الذي يسري في حواسّنا، والنشوة الطاغية التي تسْتَحْوذُ علينا وتتملّكنا، ونحن نتلقّى هذه المُسْتويات المتعددة من التشكيل الصُّوَري ـ فإننا لا نَفْقِدُ وَعْيَنا بُرْهَةً واحدة بل نَظلُّ طيلة الوقت تحت ضَوْءٍ ساطِعٍ يُضيءُ بَصيرتنا ويَدُلُّنا على مسارب التجربة ومداخلها ويُفَسِّرُ لنا رموزها ومعطياتها، فالشاعرة تُخاطِبُ فينا العَقْلَ والحِسَّ معاً، وتُحَفّزَ منّا الفكر والوجدان في آنٍ واحد، وفي توازن دقيق يُثْري هذه التجربة ويعطيها طعمها المميّز ونكهتها الفريدة.
ت
أتْرُكُ لكَ الآن هذا المقطع – المشهد من قصيدة “شجرة البرق ” لتتأمّله وحدك ـ أيها القارئ الكريم ـ وتتذَوّقَ رحيقه ببطء، أما أنا فقد أخذتُ كفايتي من هذا الفنّ الجميل يالروعتك شاعرتنا اباء اسماعيل الواعدة فى عالم الشعر العربى واضافة جيدة جدا الى مكتبتة وادبة الرائع.
الكاتب والناقد \حسن الحليلى