تنويعات الغربة وفضاء الذات في ديوان ( أنتَ طفولتي في القصيدة) للشاعرة إباء اسماعيل – تقديم الأديب والناقد المصري أشرف الخريبي
يناير 11th, 2013 بواسطة إباء اسماعيل
تنويعات الغربة وفضاء الذات في ديوان
( أنتَ طفولتي في القصيدة) للشاعرة إباء اسماعيل
تقديم: أشرف الخريبي
-
· بداية
تتمتع هذه النصوص بروح شفافة مجروحة بتغريب الذات، تحملها تلك الغربة المقيتة في زواياها لتسكب عليها لظاها المنهمر بلا توقف، فتتوالى بها موجات الحنين إلي الوطن ، تحملها رياح التخييل وروح وثّابة تلك التي تصارع البقاء في صراعات الغربة والتغريب، تسعى جاهدة للولوج إلى السكينة والسلام، مطمئنة لحالة الشعر كموقف بطولي حتما، والانتصار للذات في تجلياتها المختلفة، العبور نحو الموطن / الذي يتهيأ للذات في العبارة المغزولة بالنشيج والوجع ، الظلال والحصار، الشعر ملاذها، تتحلل من قيود الملامح وتحمل خصائصها المتفردة في متناقضات كثيرة، تتأثر بالغربة تأثرا مُباشرا ليس لدرجة التشويه، لكنه اختزال الألم لمسافة بعيدة تحبو نحو القصيدة كملاذ أخير، رغم أن لها ملامحها الواضحة/ المباشرة/ جامحة / طفولية / آبية بشغف الذات للعبور نحو الأخر، تحمل مواقفها الرومانسية في عذوبة وإنسانية عميقة.
ألِفي و بائي وهمزتي ، بشائرٌ مُقاتلةٌ /
منك و فيكَ، فيّ و منّي /
ومن توأم غربتنا ، نَزَفتْ حروبها !!!
ففي الوقت الذي يبدو فيه الإحساس القوي بالانتماءالعميق للجذور واثبا نحو القول الشعري مع ألفتها الطبيعة والواقع المعاش من جانب فإن هذه المعرفة الحسية الحميمة تعترف بأن السر في العودة ثانياً إلي المنابع، رغم هذا الصراع المستوطن في العبارة.
دمُ أحرفي يأبى إلا أن يتحرر
من مخالب الثلوج
وينفلت إلى قلب الشرق
هويتهُ الأبدية …..
مهما ابتعدتُ ،
فالسماء تحضنني بجنونها الملائكي.
من (قصيدة شَغَبُ أحرفنا)
وقد تكون اللغة هي المفتاح الاساسى الذي يقودنا لذلك .فهي أداة تعترف الشاعرة بقيمتها وأهميتها في التشكيل الفني الذي يؤكد أن الخصائص الذي يمتاز بها انطلاقتها الشعرية هي من مُعايشة حقيقة عميقة للذات الطموحة في تشكلها، بروح شعرية باسقة تحمل هذه الخصائص وتنتمي إلى واقع بعينه لابد أنها باقية في نفس ذلك المنطق لم تغادره، غير أن بقاءها المتناقض هو انشطارها الداخلي الذي يحمل نبع الألم والمعاناة ويجعل صفة الانتماء إلى هذا الواقع حقيقة لصيقة به.
-
· تجذر الذات والواقع
الفرق بين عالمين وغربتين واضح في معظم النصوص لهذا الديوان فنلمح خطى تسبق الركض ومشاعر تختلط بالتراب والعاصفة وانقسام للذات على نفسها وتجذر يحمل آناتها
كانوا يمرّون بي،
كمضغةٍ ملقاة في تربةٍ صحراوية
تنتظر لحظات التجذّر
وتقول أيضا:
أتخيّلني بديلاً عن امرأةٍ أخرى تعرفني
و تحجب قهري
و مَنْ مِنا نحن الإثنتين
لمْ تصفعْها ريحُ القهر
أجدُني قنبلةً
أنفجر في ذاتي دون شظايا ..
دون ضحايا ..
دون براهين على قتلي .. ( من قصيدة اندثار الثلج )
ويتضح هذا الانتماء من خلال مفردات وتراكيب عديدة تقوم وبصفة خاصة على العلاقة المنطقية بين مفردات الصورة المستخدمة من الحياة، وبين الواقع في ازدواجهِ الحميم مساحات من الغربة والتغريب وتشابك علاقات الواقع، وتحتل العناصر الزمنية والمكانية مساحة غنية داخل نصوص الديوان، تبرهن على حالة التشظي مع هذه اللغة المنتقاة بعناية، فلها منطقها البنائي الفني داخل السياق الذي يشحن المفردات بدلالات متواترة وخصبة، تصور وترصد وتصف من خلال الصورة الفنية الكاملة للمشهد الشعري، وحيث يمتاز هذا التشكيل الفني بالرتم الموسيقي إلي جانب الخصوبة اللغوية في ثنايا تشكيلاته الشعرية المتنوعة ليمنح للنص القدرة على إطلاق الطاقات الشعرية والنغمية، على مستوي الحروف والألفاظ .حتي تكاد تقترب من بلوغ الذروة، وتتسرب الصورة الشعرية بصدق وبراعة في إنتاج البنية.
بساتيني غارقة في دمي/ أمحوها /
ثم أصحو فيها
لأنها كانت بدايتي
لأنها أخذتني إلى ملامح جديدة
من العصب السرّي للكلمات …
فنلمح الوجع والأنين كي تنفرط السنوات، يستبيح الشجن ويهدر الوقت الباقي تتساقط الدمعات بلا طائل غير السهد / الأنين المتواصل مع الغربة/ غربة الذات على الدوام وغربة الواقع، هو الضباب حين تنحرف أو تنجرف الحياة فلا مفر من الحنين مع الذات والأخر (وجه الوطن)كي تبدأ الرؤية حلما يتوارى قبل النشيج وبعد كل القضايا في منتصف السكون تماما نجد
(صهيل ) براءةُ الأنهارِ تضيء شراييني، حين أنظرُ إلى ظلّي
والدهشة أحيانا كثيرة في صورة شعرية مُمتعة ومُتماسكة البناء تبدأ هنا من الرؤية من موقف النص من العالم وموقف اللغة منه، تلك الراغبة على نحو كبير في إدهاشنا كأحد طموحات النص غير أنها في توجهه المعرفي وخطابها السياسي أيضا تكشف إمكانية هائلة لاستخدام المفردات عبر تشكيلات وقضايا مصيرية وحياتية.
أقرأهُ برْقاً وسحاباً كما لو أنَّهُ ليسَ أنا
أو لكأنّني لستُ هوَ
هي اللغةُ تتماها فينا…
هي الرّوح تطيّرُ عطورَها كالبنفسجِ لتكوِّنَنا:
برْعمين في صحراءِ غيابْ ،
نجمَين تساقطا
على أوراق الشِّعْرِ
وأخْصبا سيمفونيةً حائرةْ …
إن اجترار الذات مع النزوع إلى التركيز على الصورة الشعرية الهادئة، يسعى فيها النص إلى تحقيق موقف موضوعي من العالم في مواجهة الذات،والذات في مواجهة الأخر والجميع في صراع الغربة، في إعادة ترتيب هذا المشهد الدرامي في مخيلة المبدع والمتلقي عبر المفردات والصور التي تتألف في وحدة عضوية متسقة مع دلالة الطرح، تنسجم في عذوبتها وهمسها دون صخب، تتسلل إلى نفوسنا بحميمة وصدق. مليء بالانفعال العاطفي عبر بنية شعرية هادئة كهدوء الموسيقى ترصد صورة ثرية الدلالة مُتوهجة كالشمس، غنية الدلالة عذبة المفردات، متتابعة بلا توقف.
إن نصوص إباء إسماعيل مع بنائها الرومانسي وبساطتها الفنية تعمق المنطق الفكري وتختزل لحظات الواقع لتشعرنا بعالمها الفني الواسع وتدعونا إلي الاسترسال في هذا الإيقاع الرومانسي مع تداخل المنطق الفكري وتسريبه إلي المتلقي، ولكنها أبداً لا تدفعنا إلي القراءة الفكرية الخالصة بعيداً عن هذا المنطق الرومانسي في رؤيتها العامة لننظر فيها بوعينا وعقلنا أنها تعطي مسافة بسيطة متجاورة وفي نفس الوقت مُترددة وكأنها تخشى أن تترك فينا إحساسا بأنفسنا وبموقعنا في عالمنا الذي نعيش، كي نبقى في منطق الشعر الحيادي لنبدأ متعة الإحساس والوعي بشيء كنا لا نحسه ولا نراه ومع ذلك فهذه النظرة المترددة لا نراها بهذا العمق دائما.
أعوذُ بسلسبيلِ خُطاكَ
المزروعة بسيوف النَار
وبِنارِكَ المُتّقِدةِ بشجرةِ زيتونٍ
مِن هَمَزاتِ صُنّاعِ “هُبَل” / فَوقَ أنوار ” الأقصى” ! …
وأعوذُ بأرواحِ اللحظاتِ المُلْتَهِبةِ.. (من قصيدة يا صديقي ..عِمْتَ ضوءاً وَغماماً)
الخطاب الفني وخصوصيته.
النص الأدبي هو نص له هويته وهو بذلك ليس نصا سياسيا أو سيكولوجيا أو اجتماعيا ولكنه يحمل هذه الدلالات ويتيح لنا أن نقرأه أكثر من قراءة في حضور الفعل الإنساني فيه سواء أكان فعلا مُتراكما ، مُولدا ، نابضاً ، مُعبرا عن رؤية ما للفنان متسقة مع حركة النص والياته الفنية، نابعا أساسا من خلفية فكرية أصلية تستطيع أن تولد دلالات داخل النص في تشابك علاقاته وصوره. لكي يكون للفن بصماته الواضحة علي الذاكرة. كما يفعل هذا الديوان ،فالبناء الفني / اللغوي له حركته دوما التي هي حركة الزمن / والفن / الواقع وصدامنا معه، صدام أجلته الشاعرة في معظم الأحوال لأنها هي نفسها لم تصطدم بعد ، باقية بين غربتين دوما غربة الذات وغربة الواقع مُتجذرة الوجود علي الدوام.
لم يدخلوا جذور قلبي
ليقرأوا خرائطهُ/ الحمراءَ والزرقاءَ /
المتوسطيّةَ الدافئةْ ،
بل دخلوا كهوف بيوتهم
المزركشة بالورود الاصطناعية
وتبادلوا الأنخاب (من قصيدة ميتشغن )
ويعد أحد ملامحها الأساسية التي تكشف حسها الفني العميق. شعورها الصادق لبلوغ الموقع الفكري بما يحمل من أثر في توليد دلالات النص، وهي تصيغ موقفها الفني والفكري المميز والتزامها من حيث استخدام الأدوات الفنية وطرائق التعامل معها في علاقة مميزة ثرية وكاشفة لكثير من أوجه الدلالة، تستطيع من خلالها التغلب على الأبعاد الزمكانية في سهولة ببهجة وصفاء الألوان والظلال ،تجسد المشهد الشعري في مواجهة المدينة /الوطن أو الذات / الوطن / أو الضياع نفسه في المدن والطرق والمطارات والسفر بلغة عميقة وصور صافية تجسد بهاء التجربة.بالعودة إلى الطفولة في ضوء هذا الشعري الذي يتحدد بداية مع الذات ويقترن بها بانكشاف لاواعي عميق ليعد أساسا وضرورة للتواصل الممكن مع الحياة ، فنظل نتابع النصوص في رهافتها نستشعر مكوناتها وبحثه الدؤاب عن اللحظات التالية في الحلم أو الكابوس سيان.
لم يعد الكلام يسمع صمتنا
لم تعد الحكاية تفهم لوننا
لم تعد الحياة تكنز وقتها في جرار الوقت كي تتراجع عن مواتِها!!
فتبقى تجربة الطفولة مثيلتها في الواقع هروبا أو حنينا حين تتغير الأحداث ويبقى لنا جانبنا الدافئ في الشعر كي نقيم عند تخوم الطفولة أحلامنا، نتوارى خلف تواصلها وبراءتها ونصنع لأنفسنا عالمنا الشبيه، نأتنس بها وما بها من ذاكرة لا تغيب عن وعينا باللحظة الآنية.
إن العلاقات التي تنتظم في هذه المكونات تشكل بانتظامها اللغوي حركة أولى ، تنهض من رؤية الشاعرة للواقع / العالم الذي نعيش. فتنتظم بفنية تلقائية تميز النصوص إلا أن هذه البنية ليست واحدة لكنها بنية مُتعددة الأداء تنبع من رؤية شاملة مُتكاملة للذات في بحثها المستمر.وغيابها الذي تغلفه الغربة في ثنايا وحشتها الأليمة، فتنزلق لقطع الصورة عن عالمها وعن علاقاتها، وتتحد مع وجه الطفولة القريب أو الذاكرة الخبيئة، ويجب أن يكون واضحا أننا لا نقوم علي عمل مساجلة بين الرؤية والواقع.ولا نقوم بمعادلة بين النص والفكر من جهة, ولكنا نرصد هذه البنية المتعددة في سريانها وانتظامها الشعري النابع من روح شعرية محلقة في فضاء الشعور، وهذه الروح الرومانتيكية تتعانق بشفافية والتحام مع ذاكرة الطفولة بنقائها وجمالها وبراءتها ومع الذات أيضا في انعطافها وصورتها المحفورة في الوعي / الوعي الذي يستخرج وجودها الإنساني وخبرتها كي يصبها على النص بجمال ووعى، لما نرى موقفنا من الحب كحيز واسع المسافات والخطى نحو إيمان عميق به كفعل انسانى له دوره الأساسي في حياتنا الراهنة التي تخلو من ثمة فاصلة حقيقة لهذا الفعل تجربة مثيرة بالتحام فواصلها الإنسانية وخبرة كل من موقفيها بين الحميمة والغربة /كمثال/ وفى الحب كموقف من العالم غير أن المشاعر الإنسانية تظل هي المشاعر بكل جمالها وبراءتها في مواجهة حالة التغريب التي تحمل الذات بين راحتيها وبين وطنها الحبيب الماثل كالياسمين
(براءات حب)
أنتَ وطني، من ترابِ الجنونِ / معجونةٌ تضاريسي فيك..
وبراثن الغربةِ ، ثلوجٌ من خَرابِ الروح /
نخرجُ من شرنقتها فضاءينِ بلا زمن أو حدودْ
دراسة تصلح أن تكون نقدية أدبية و بامتياز. الديوان كما يظهر من سطور الاستشهاد و الاقتباس ينساب نغما و عذوبة. الصور الفنية تلامس الخيال بانسيابية تترك للقارئ حرية الجنوح و الاضافة و الاكمال. نتمنى لهذا العمل كل النجاح و الرواج.