رسم معالم قصيدة المهجر للشاعرة السورية “إباء إسماعيل” والأثر الأكبر لدلالة مسيرتها التي أشبعتها الغربة- بقلم الصحفي والناقد العراقي الأستاذ قاسم ماضي
مارس 29th, 2020 بواسطة إباء اسماعيل
الصور الشعرية في ذاكرة شاعرات المهجر من منظور نفسي واجتماعي، هي بإعتقادي خيوط اللعبة الشعرية التي تبنى القصيدة الإغترابية عليها وبالذات القصيدة الأنثوية، وهي تكشف عن مكانة خاصة في توهج النص والصورة الشعرية، وهذا التلازم ناتج عن وعي تام لدى الشاعرة، وباعتبار الذاكرة جزءا من النص، و تفشي أسرارها عبر هذا المخيال الشعري الذي تبنته الشاعرة في فترة تواجدها الاغترابي، ولهذا نجد صوتها يشغل صوت النص وهي منشغلة بإحساسها بالوحشة والبعد
عن الوطن:
الياسمين عرش الطفولة
يهفو من أصابع الشام
إلى خلخلة الأرض الغريبة
من تفاحة نيويورك
لحظة اللازمن
حين تقع على أرض العجائب (ص .37)
والذاكرة لدى أي مبدع ِيخوض في هذا المجال وأقصد المجال الشعري، تكون يقظة تستلهم معانيها من المحيط الذي تتعايشه، لذلك نجد في صوتها الشعري صرخة استنهاض للحس الإنساني عند مجتمع الإغتراب، وتكون منتظمة النص كاملا ًكما يقال، وتشكيل هذا الديوان الشعري في الذاكرة، وقد حققت تلك القصائد في هذا الديوان ” أنت طفولتي في القصيدة ” حضوراً في هذا الإغتراب، ونحن نسعى إلى مقاربة علاقة المرأة بالممارسة الإبداعية، وتحفيزها على ضوء معطيات هذا الواقع، وأنماط الصورة الشعرية لدى الكثير من شاعرات هذا الإغتراب، والكل يعرف أن الكتابة الشعرية الأنثوية تخضع لمعطيات الواقع الاجتماعي، والحقيقة الشاعرات يستحضرن الذاكرة ويحاولن ربطها في هذا الواقع المجحف.
خصوبة أليفة
جمحت
رغم التواري
في تراب ِ الغربة
وما زالت تُخْصِبُ (ص.19)
وكلنا يعلم وخاصة من المشتغلين والباحثين والدارسين في المجال الشعري، والذين يؤكدون على استقصاء الشواهد الشعرية في الذاكرة الإغترابية ، وربطها ضمن فلسفة الأطر التي تتماشى مع الواقع الشعري الاغترابي، يقول ” عمر أحمد ” وهو طالب دراسات عليا في اللغة العربية، متناولأ تاريخ تجربة الشعر الإنسانية على مدى التاريخ، وهو القائل ” الشاعر ” مخلوق مسكون بذاكرة تتفوَّق على غيره من الناس، لما يملكه من قدرة على استحضار مكوِّنات هذه الذاكرة بتفاصيلها الصغيرة والدقيقة، وإعادة إستثمارها لتشكيل عمله الشعري وتكوين تجربته الشعرية من جديد، وها هي الشاعرة السورية ” إباء إسماعيل ” ترسم ملامح قصيدتها في هذا المضمار فهي تترجم قصائدها فنياً بذلك الصراع الفكري والنفسي والقلق الوجودي والذي يأخذ نسبة كبيرة في عالمنا الإنساني الذي أرادت الشاعرة الخروج من قمقمها الذاتي حتى تكون كونية في مشهدها الشعري .
ومن توأم غربتنا
نزفت حروبها !!! (ص. 18)
وبعد صدور العديد من هذه المجاميع الشعرية ونذكر منها ” خيول الضوء والغربة “عام 1999، و ” أغنيات الروح “2001، و ” اشتعالات مغتربة”2007 وغيرها من المجاميع، وأنا بدوري أبحث في ديوانها الذي وقع بين يدي والمعنون ” أنت طفولتي في القصيدة ” ، لإيجاد منافذ عديدة تأخذك إلى كيف يتم توظيف ظاهرة الإغتراب فنيا وهي تترجم عالمها الخاص واغترابها في معظم قصائد هذا الديوان، والديوان هو من القطع المتوسط ويقع في ص 129 .
سأشدُك إلى طرقات غربتي
كي تمضي في أرضي تاريخا ً
وزوبعة من الحب
صداها
وردتي ونارُك،
لغتي وصمتُكَ (ص.20 )
وهل يمكن القول فمن مَرَّ بالغربة شعر بالوحدة ، والألم، والحزن يلاحقه أينما ذهب أو وطأت أقدامه، وهل الشاعرة “إسماعيل ” تتحرك مشاعرها إزاء أي واقعة ، وتشعر بها حتى تتحول الصفحات البيض إلى كلمات مفعمة و فيها الكثير من الدلالات والمجازات التي تستعيرها، واذا نجحت الشاعرة في التصوير نجحت في الشعر.
ولو رجعنا إلى مقولة الفيلسوف والكاتب نيتشه :
” إن المرأة لغز كبير ومفتاحه كلمة واحدة هي الحب “
و تظل تعزف على أوتار قصائدها وهي تصور هذه الحالة أو تلك، أي مفهوم الغربة يظل يلازمها تبعاً لرؤيتها الشعرية وكما يقال فيحمل الشاعر، همَّين وهُما : همُّ الغربة في المكان الذي يعيشه، وكذلك هَمُّ الغربة في الزمان .والغربة هي تكون أشد وقعا على شاعرتنا التي تنفستها في منفاها الذي تكلل بالخسارات المعنوية التي استمرت لفترات طويلة .
أصطاد ثلوج” ميتشيغن “
أقطف بياضها لقبلة ٍ
زنبقة بيضاء
أغلفها بملاحمي الشاردة
وأهديها إلى أشهى وطن ٍ (ص. 25 )
يقول عنها الناقد المصري الأستاذ ” حسن الحليلي ” إنها تسعى إلى توليد الصورة التي هي أبلغ وأقدر على التعبير من ألف كلمة، واستحضار هذه الصورة في مخايلنا بكل ما تنطوي عليه من إيحاءات ودلالات، ويضيف ” الحليلي ” أن الشاعرة لا تكتفي بهذه الدلالات الذهنية فتشكل منها الصور الأكثر بلاغة وتأثيراً :
انظُرْ في زواريبِ عينيها
العتيقةِ كتاريخ أُمنياتك
غير المُحَقّقة..
طرقات عينيها،
المؤرّخةُ
بأسماء الغربة
وألوانها
وأبطالها
وفتوحاتها..
الغارقة في اندماجها
بتباشير الممكن
واللامعقول… (ص.30)
والشرط الأساسي في كل كتابة جديدة هو شرط انقلابي، وهو شرط لا يمكن التساهل فيه أو المساومة عليه، وبغير هذا الشرط الانقلابي تغدو الكتابة تأليفا لما سبق تأليفه، وشرحا لما إنتهى شرحه، ومعرفة بما سبق معرفته !، ولهذا ظلت شاعرتنا السورية ” لديها الرغبة الجامحة في الإشتعال على أداوتها الشعرية ضمن فضاءاتها الثقافية المتميزة .وهي ظلت باحثة في كل مفردة من مفرداتها التي عملت عليها تحت مسميات كثيرة حتى تفّعل كتابتها الشعرية وهي تسير بخطى ثابتة ومدروسة، واعتقد أن شاعرتنا ” إسماعيل ” أدركت الغاية من هذه الكتابة، وكيفية استثمارها، وهي تؤسس ذاتها الأنثوية عبرلغة معاصرة مدججة بالوعي المعرفي ترافقها المعاني في معظم قصائدها .
الحب مقبرة الكلام
حين الكلام مقبرة الغربة
حين الغربة
تتلاشى فينا
لنصيرها
تحدق إلينا
حين تدخلنا
وتضحك من شدة البعد ( ص .34 )
وحتى لا ننسى بعض الأحبة من الذين تعلمنا منهم ومنهم الشاعر المخضرم والكبير “عيسى حسن الياسري ” الذي قال عنها : أن الكتابة الشعرية خارج المكان تجهض التجربة، وتقود الشاعر إلى الخوض في متاهات اللغة والتجريد المفرغ من شرطه الفني، فالمكان هو الحاضنة الشرعية للتجربة، ومتى ضيَّعَ الشاعر خارطة المكان، إختلطت عليه الجهات، والمكان في النص الشعري أكثر شبهاً بزمان الشعر فهما يختلفان عن مفهومهما التقليدي. وهكذا ” إسماعيل ” تشتغل في غربتها على التقرُّب من مسافات تجعل من الهجرة أكثر توجعا، ويشتغل في كل هواجسها الحنين الذي عملت عليه تحت وابل من المصَّدات الفكرية والفلسفية وهي تنقّب كباحثة عن أكثر الأماكن التي ظلت عالقة في ذاكرتها .
كي نقرب وطنا ً ضائعا
من الحب الغريق
في فلكها الليلكي ! ص 35
وبالتالي نقول أستناداً إلى قول ت .س .اليوت “منجم لا ينضب” حياتنا أو تراثنا من المفروض أن يوظّف الشاعر أو الشاعرة ويستغل هذا المنجم ويتجدد معه :
آمل أن أكون هناك ،
في قلب الشعر
قصيدةً جديدةً
قابلةً للتجدُّد رغم الاحتراقْ!!! ( ص. 103)
___________________________________
قاسم ماضي / ديترويت