أبريل 17th, 2013 بواسطة إباء اسماعيل
قراءة في ديوان ( أنتَ طفولتي في القصيدة )
للشاعرة : إباء اسماعيل
* محمد وحيد علي/ عضو اتحاد الكتّاب العرب
( براءة الأنهار تضيء شراييني ،
حين أنظرُ إلى ظلّي
في فُراتِ عينيكَ …
كلماتُكَ نورٌ
أرتشفهُ … فأراكْ …
النُّورُ يلفُّ أحرفكَ الممزوجةَ بالشّعرِ والإشتعالْ …
وروحي ورقةٌ ترفرفُ
كالنورسِ في مهبِّ روحكَ
آنَ تهطلُ أحرفُ القصيدةِ
كأمطارِ صيفْ … ) ص2
بهذا التوحّد مع النور والشعر ، وتموجات الروح الشفيفة تفتتحُ الشاعرة إباء اسماعيل تراتيلها الشعرية عبْرَ ديوانها السادس والذي تشكّلَ ضمن مناخات قصيدة النثر ، وقد سبقَ للشاعرة أن أصدرت ديوانين ضمن هذا المناخ إضافة إلى ثلاثة دواوين تفعيلة أحدها مُوجّهٌ للأطفال … وبذلكَ تجمع الشاعرة بين الأشكال الشعريّة وكأنّ لسانَ حالِها يقول :
الشعر شعر مهما تنوعت وتباينت الأشكال ، وما الشكلُ إلا عنصرٌ واحدٌ من عناصر القصيدة …
وفي دخولٍ لهذا الديوان الذي بين أيدينا لابدّ من ملاحظة مجموعة من المرتكزات التي تشكّلُ تجربة إباء الشعريّة والتي تسمُها ببعض السّمات الخاصة ، وقد شكّلَ هذا الديوان تأكيداً على هذه السّمات باعتبارهِ إضافةً كمّيّةً وكيفيّةً لهذه التجربة .
وعلى الرغم من أننا لا نستطيع تقسيم الشعر- القصيدة إلى أقسامٍ ومناحٍ ويافطاتٍ إعلانيّةٍ إلا أننا بغيةَ إجراء مقاربة لهذه التجربة لا بدّ من وضْع بعض الإشاراتِ الدالةِ والمُعبّرةِ … ونحن ندركُ أنَّ القصيدةَ جسدٌ وروحٌ وهي أشبهُ بكائنٍ حيٍّ يحْيا ويتنفّس كما يرغبُ الشِّعرُ وكما يتنفَّسُ الشاعر.
وفي هذا الديوان تقفُ الشاعرةُ على مسافةٍ قريبةٍ من روحها لترى العالمَ من خلالِ ذاتِها الشاعرةِ وانعكاساتِ هذه الذاتِ التي تُعيدُ صياغةَ هذا العالم من منظارِ فنّيٍّ , شاعريٍّ ، ومن ثمّ تقومُ بمحاورتِهِ وإنطاقِهِ عبْرَ مرايا شعريّةٍ نفّاذةٍ … فيغدو أكثرَ جمالاً , وأكثر حدّة , وإضاءة … خاصةً وأنَّ الشاعرةَ تعزفُ ذلك بأوتار مشاعرِها وأحاسيسِها الداخليّةِ الطافحةِ بإيقاعٍ خاص ممّا يجعلُهُ أكثرَ تأثيراً ، وأكثرَ قرْباً منّا نحن المُتلقّين .
ولعلّ محاورَ ثلاثة قد شبكتْ قصائد الديوان وأعني :
( الغربة – الطفولة – الحُب ) وهذه المحاور التي تبدو منفصلةً ، هي ليست كذلك في اشتباكِ الديوانِ ومفرداتهِ ، وجملِه . حيث أنّها بدتْ متداخلةً ومتمازجةً بحيث لا يمكنُ الفصْلُ فيما بينها على أنها قلاعٌ حصينةٌ ، بل أنّها أشْبهُ بأنهارٍ صغيرةٍ تفترقُ أحياناً ثم سرعانَ ما تعودُ لتتلاقى ، وتشكّلَ صوتاً واحداً متنوّعاً وغنيّاً… ومن هُنا صعوبةُ أن نفْصلَ بين هذه المحاورِ الثلاثة التي شكّلتْ خيوطُها نسيجَ هذا الديوان … ويبدو ذلكَ جليّاً حين تتكاثفُ هذه المحاورُ وتُفضي إلى بعضِها بعْضا من خلالِ إشاراتٍ وإيحاءاتٍ شعريّةٍ شفيفةٍ تشي بدلالتِها وسحريّتِها حتى في المقطع الواحد أحياناً عبر تمازجِ اللغةِ والإيقاعِ العميقِ لأمواجِ الرّوحِ القلقةِ ، المُتمرّدةِ والتي تقفُ مُقابلَ الخرابِ بسلاحِ الشِّعْرِ ، وبراءةِ البوحِ وبساطةِ الصّدقِ والحقيقةِ :
( معجزةُ اللقاء المستحيل مع شمس روحكَ
وحوار الغريبين في حميميّة اللقاء
تصنعُ جنوناً خرافيّاً
أقربَ إلى الطّيرانْ ) … ص3
يتبدّى الحُبّ رائقاً ، متفرّداً وهو ينشرُ أريجَهُ الفاغمَ إضافةً إلى أبعادِهِ الإنسانيّةِ المتينةِ التي جمعتْ أجزاءً لحظويّةً ، وجمحتْ إلى عالم الطفولةِ – الحُب – الغربة . كما تأتي نهايةُ المقطع كحتميّةِ انتصارٍ لهذا الحُب الذي تجمعُهُ الشاعرةُ وتختزلهُ في روحِها على هذا القدر من التكثيفِ والانسجامِ التعبيريّ الخلَّاق :
( أنتَ طفولتي
وخرافتي ! …
أحتفظُ بكَ في جميع مطارات الشوق
أطفح بكَ
أحيا بكَ
أتنفّسكَ كالمطر
حين يعانق الأرض … ) ص9
وبعيداً عن علاقةِ المرأةِ الأنثى بالرجلِ الذكرِ … بعيداً عن العلاقةِ النّمطيّةِ المُستلبةِ المعنيّةِ بالشّوقِ والشّكْوى واللوعةِ والتّباكي … نجدُ علاقةً إنسانيّةً راقيةً لا تسْتلبُ الآخرَ ولا تستلبُ الذاتَ وإنّما تتكاملُ عبْرَ تبادلِ هذا الإحساسِ الإنسانيِّ العالي :
( كلّ كنوزها الكامنة
صارت فيكَ ينبوعَ احتراقاتٍ ساحرةْ …
كلّ ملامحها التي صنعتْها منكَ أُنثى
تفوحُ الآنَ برائحة البنفسجْ … ) ص15
الرجل والمرأة … كلاهما محاربان على طريقتِهما من أجْلِ الحُب ومن أجلِ الجمالِ ، ومن أجل الحقيقة … الرجلُ والمرأةُ بوصفهما أصل الجنسِ البشريِّ ، وهما اللذان يعْطيانِ العالمَ قيمتَهُ وجمالَهُ فأجملُ شيءٍ في هذا العالم الإنسان :
( كلانا محاربان يسترقان البوح
إلى أجنحة العصافير
حين تهبُّ رياحُ جنونها في شموسنا
وتلتقي الجبال تحت ذرى أقدامنا
المنتشيةِ بوهجِ الأرضِ والموسيقا … ) ص24
وفي حوار الضوء مع الضوء ، والطيور مع الملائكة … في أكثر اللحظات بريقاً وصفاء وطمأنينة حيث فراشات الشعر تتراءى في فضاءٍ آسرٍ من الصّورِ والأخيلةِ كما لو أنّنا ننظرُ في مرآةٍ سحريّةٍ غامضةٍ وندخلها مُسْلمينَ قلوبَنا إلى فضائِها العميق:
( طيورُ الضوءِ تستحمُّ
كما لو أنها ملائكةٌ بيضاء
ترفرفُ في حدائق الخلودْ ! ) ص27
ولأنَّ المتاهةَ الشعريّةَ أشبهُ بغابةٍ غامضةٍ … نكتشفُ ذواتِنا من خلالها ، كما نكتشفُ مجاهيلها التي تشبهُ دواخلَنا البكْرَ ، ولُغتَنا التي نعيدُ اكتشافَها من جديدٍ عبْرَ تفْجيرٍ بسيطٍ لسائديّتِها وأنماطِها المُعتادةِ في سياقاتِها المركونةِ إلى شيءٍ من الرتابة …
فالشاعرة هنا تكتشفُ العلاقةَ بين : الحُبّ – الشعر – اللغة باعتبارها جامعاً وموحّداً … فالدخولُ في الشّعر ومتاهاتِهِ يقودها إلى الحُبِّ والإنعتاق … ولأنَّ اللغةَ إذْ تعيدُ الشاعرةُ اكتشافَها برهافةِ الشّعرِ ما هي إلا كائنٌ جميلٌ يوحّدُ الأفكارَ والأحاسيسَ والقلوبَ النابضة :
( جميلة تلك المتاهات الشعرية
التي تقودها إليكْ …
لأنها تذكّرها
بأنَّ اللغةَ كائنٌ عاشقْ . ) ص88
هلْ تكفي الصرخةُ المدويّةُ لإعلانِ ولادةٍ ، أو لإصرارٍ على الحياة ، ومَنْ يُفجّر فينا وردةَ الحلْمِ الكامنةَ لتتشظّى في كلّ اتجاهٍ راسمةً أُفْقَنا وإصرارَنا على كلِّ ما هو ساحرٌ وأخّاذٌ في حياتِنا ، وهلْ يمكنُ للأحلامِ المُتبقّيةِ أنْ تُعيدَ أرواحَنا القلقةَ إلى صفائِها وتساميها:
( أتوق للإندثار
تحت لحاف الحياة الأزليّة …
أريدُ ظلاً شفافاً يتوهّج فيَّ
يحتوي أحلامي المحتقنة . ) ص89
في القصيدة المعنونة ( رومانسيّة) ثمة حالةٌ متفرّدةٌ من الإنعتاق والسّموِّ الرّوحيّ يتجلّى في سموّ الأحلامِ والرؤى ، وكأنَّ روحَ الشاعرةِ قد تحوّلتْ إلى طائرٍ ينظرُ منْ عُلٍ إلى الأرض والكائنات ويتوحّدُ معَها بإحساسٍ عامرٍ بالمحبّةِ والتّوقِ والغبْطةِ والتّعاطفِ والتوحّدِ مع الكائناتِ والأعشابِ والأنهارِ تقول :
( هيا اركضْ أيها الماء العذبُ
فوق حصى دموعي الجريئة ) ص 94
وإلى الغربةِ كواقع وإحساسٍ عارمٍ نرى الشاعرةَ أشْبهَ بعروسِ البحرِ وهي تحاولُ الإفلاتَ من شبكةِ الغربةِ كما لو أنها قدرٌ ، ولا بدَّ من رؤيةٍ ورؤيا على طريقِ الشّعْرِ المُخلّص :
( هذا الغيمُ الجامحُ البياض
في كوّة الجبل الأسود ،
غربتي
تشرقُ في البعيدْ …
وهذا الرذاذ المتطايرُ في داخلي وخارجي
شلالاتُ بوحي وحنيني إليكْ …) ص 95
ونتابع ذلك الصراخ المتواصل المتمسّك بحبالِ الأمل والنور وومضاتِ الحلمِ الخفيّةِ كما لو أنَّ ثمةَ محاولةٌ للعودةِ إلى الرحمِ والعيشِ بسلامٍ دائم:
( أيتها النوارس كفاك صراخاً
وأنتِ أيتها الفقماتُ المحتشدةُ
والأسماكُ البيضاءُ
خذيني معكِ إلى أعمقِ مُحيطْ . ) ص96
من الممتع أن نتابع هذه الرحلة الشعرية في ديوان الشاعرة إباء اسماعيل وهي إذ تصرُّ في كل ما تقدّمهُ على التأكيد والبحث عن صوتها الخاص وفرادتها الإبداعيّة , شاعرةً أنَّ روحَها لا بدَّ وأن تُؤسّسَ مداها الفنيَّ كما يرغبُ الشّعرُ وكما ترغبُ القصيدة .
كتب في قسم: فضاءات نقدية | لا توجد تعليقات | 3٬638 views