أكتوبر 22nd, 2009 بواسطة إباء اسماعيل
ولوج المكان وأسطورة الجبل عبر الزمان: تأملات في “عصفورة قاسيون” للشاعرة إباء إسماعيل
النص :
عصفورة قاسيون
وآتيكَ يا جبلي الآنَ
عصفورةً منْ حنينْ …
أمدُّ جناحيَّ فوقَ عرائشِ روحِكَ
أقطفُ ريشَ اغْترابي
نجوماً
تسافرُ في ليلِ عينيكَ صمتاً
على صخبِ الغائبينْ …
وآتيكَ منْ صرخةِ الشّوقِ
مثلَ الفراشةِ
آتيكَ فجراً تربّى
على دهْشةِ الياسمينْ …
وألقي مجامرَ عمْري
وروداً
تَبعْثرُ عندَ سفوحِ البلادْ …
يشاهدني قاسيونُ
كطفْرةِ نورٍ غريبهْ …
أطيرُ على مفرقِ الصّبْحِ
يأخذُ النّورَ منْ وجْنتيكَ
وأُثْمرُ بشْرى على ساعديكَ
ألمُّ الرّمادَ
وأحلمُ حلمي الخرافيَّ
يفْتحُ شرفتَهُ عالياً
ويضيئُ على أُفُقٍ منْ حدادْ …
***
رأيتُكَ بوحَ السّنابلِ
والأُمْنياتْ …
رأيتُكَ زهْراً يفوحُ
وغيماً يُساقطُ نوراً
يعطّرُ كلَّ الجهاتْ …
رأيتُ خطاكَ وقامتَكَ الضّوءَ تعْلو
رأيتُ الجراحْ …
سألْتُ عنِ الحزْنِ
في قعْرِ عينيكَ
لكنّني غبْتُ في النّورِ
يخْرجُ منكَ اشْتياقاً
ويغْمرُني بالصّباحْ …
رأيتُ على السّفْحِ خدّيكَ
يزْدهرانِ نجوماً …
أتقْبلُ هذي الغريبةَ ،
هذي القريبةَ
والحُبُّ في الرّوحِ صفْصافةٌ
وغبارُ الغريبةِ دمْعٌ تهادى
على درَجاتِ الرّياحْ ؟؟!!…
***
قاسيونْ …
منْ وراءِ البراري الرحيبةِ
ها يُقْبلُ الآنَ ،
أبْناؤُكَ العاشقونْ …
يقْبلونَ كغيمِ تفتّحَ في الأُفْقِ
يفْترشونَ سجاجيدَ أرْواحِهمْ
في ذُراكْ …
قاسيونْ ،
ورْدةٌ منْ بياضِ الطّفولةِ
تفّاحةٌ
وفصولٌ تخبّئُ أشْواقَها
ومداها الحنونْ …
سأُغنّي التّرابَ الذي
يشْبهُ النّورَ
في راحتيكَ
وأحْملُهُ في دمي
وأُغنّي الورودَ التي أينعتْ
في دمِ الأرضِ نوّارةً
كي تمرَّ السّنونْ …
قاسيونْ !!!…
***
جميلٌ أنتَ
في نومِكْ
وفي صحْوِِكْ …
وتورقُ في دمي الأشْواقُ
منْ وهْجِكْ
ومنْ ألْحانِ أنْفاسِكْ …
وأرْسمُ ضحْكةً للأرْضِ
لمَّا في المدى أمْضي
وفي قلْبي فراشاتٌ
تضيئُ الزَّهْرَ
في قلْبِكْ …
وأصْعدُ بيدرَ الأحْلامِ
كي أحْظى
بحلْمٍِ منْ شذا ورْدِكْ …
ألمُّ النَّارَ منْ درْبي
وأزْرعُها بليلِ الغرْبةِ الصَّمَّاءَ
كي أجْلو دروبَ الحُبِّ
في ليلِكْ …
وفي سرّي
وفي علَني
لحقْتُ بنورِ أسْرارِكْ …
كأنّكَ روحُ أُمْنيتي
تضيئُ الليلَ والرّؤيا
ولاتتْعبْ …
وضاءتْ فيكَ أزْمانٌ
وأسئلةٌ نكسّرُها بأجْوبةٍ
وآفاقٌ تجمّعنا
على شَجَنٍ
على وطنٍ
فترفعنا إلى روحٍ مقدّسةٍ
وتحْضننا الحواسُ العَشْرُ
نبْصرُ ضدَّنا الآتي
ونبْصرُ مثْلَنا في الشّمسِ
نبْصرُ ضوءَنا المجنونَ
مثْلَ النَّبْعِ
يصْعدُ منْ ذرى الكوكبْ …
يسيلُ … يسيلُ
في أرْضِ
نجمّعها ونرْفعها
إلى الأحْلامِ
نصْرخُ هاهُنا وطنٌ
نحيّيهِ
ونصْعدُ في مواسمِهِ
ربيعاً منْ هوى صوتِكْ
جميلٌ أنتَ
في نومِكْ
وفي صحْوِكْ !!!! ….
القراءة
للعنوان دلالته وإيحاءاته التي تسمو بفضائها القصيدة في أربع شمعات شعرية يفوح منها جمالها ودفؤها وعنفوان دلالاتها. رباعية تحلق بنا في سماء الشاعرية حيث “عصفورة قاسيون” بمجده وشموخه وإطلالته العبقرية.
حراك تصويري حيوي يثير حفيظة الخيال والشاعرية وفنون المجاز والتشخيص والانزياحات والتكثيف، بروح تنطلق من كنهها رومانسية التماهي بين المرء وطبيعة الوطن، حيث الأنا تتسيد جبل الشعر ومعها قوتها من مفردات تدل على قاموس شعري متفرد وعلى تجربة نصية وإنسانية متميزة تدعو للتوحد مع صوتها روحاً وجسداً.
في الشمعة الأولى نحن أمام مشهد شعري ديناميكي مؤثر حيث الخطاب الشاعري مع الجبل الدال على كبرياء الذات الشاعرة أمام لحظات الاغتراب والتشظي والتوتر والقلق. كما تشدنا صورة العصفور بكل رمزيته وبهاء فضاء الحنين الذي ينمو في بستانه، على أمل التوحد المقصود بنية الأنا في أنسنة كل شيء يتحرك أمام بؤبؤ العينين ولا ينتهي، حيث حركية الجسد ولغته، مرةً مع الجبل وأخرى مع العصفورة المكتنزة بالحنين ونوستالجيا الأنا الشاعرة إلى ماضي عرائش الروح كي تستريح من همها ووجعها واغترابها. يتحول المشهد الشعري من بؤرة لأخرى بوعي الفكرة والصوت الناطق بها، بحيث تأتي النجوم فاكهة عذبة مستساغةً مكافأة للبوح والرجوع للمكان الذي أصبح أسطورة النص ذاته، في توازيه مع حركية السفر في ليل العينين بما تحمله الصورة هنا من دلالات الانتماء والعشق الأبدي للوطن وتضاريسه وطقوسه الرومانسية متحولاً لشخص يسدي أنسنة مقنعة للذات الشاعرة لكنها أنسنة في عميق الصمت الذي تتطلبه لحظات الـتأمل والاستمتاع بوحي الطبيعة في عروش الوطن. ثم انعقاد النية على القدوم من “صرخةِ الشّوقِ” في صورة الفراشات التي تدل برمزيتها ومعناها على سمو فكرة الحرية والكرامة الجمعية/الوطنية والشخصية في عهد جديد مع الياسمين المدهش وتلافيف العمر بما تحمله دلالة اللفظة من نزعة تصوفية لدى الذات الشاعرة حيت يكون الوطن الكل الإنساني والأمل المطلق في قاموس الشاعرة. والشاعرة هنا تتقن فن التحول والتحويل والإبدال والانزياح حين يتعلق الأمر بانشغال الذات مع الوطن وأمكنته الكبرى والصغرى هناك “عندَ سفوحِ البلادْ” حيث يشمخ “قاسيون” بجماله وبهائه ودلالاته. ولقاسيون مرتبة الأسطورة والقدسية في موقعه التاريخي والحضاري والتراثي، حين نعلم أنه في سفحه الأدنى كان يسكن آدم أبو البشر، وفي أعلاه قتل قابيل أخاه هابيل ففتح الجبل فاهُ لفظاعة العمل يريد أن يبتلع القاتل ( وهناك مغارة الدم ) وأخذ الجبل يبكي وتسيل دموعه حزناً على هابيل ( وهو يقطر حتى الآن )، وبقي لون الدم على صفحة الصخرة التي قُتل عليها هابيل ظاهراً، وفي كهف جبريل جاءت الملائكة إلى آدم تعزيه بابنه هابيل وفي شرقيّ قاسيون كان مولد إبراهيم الخليل عليه السلام، وفي غربيّه الربوة التي آوى إليها المسيح وأمه عليهما السلام وقرب الربوة في النيرب كان مسكن حنّة أم مريم جدة المسيح عليه السلام .
وحين يتحول الجبل المؤسطر إلى شخص له قيمته ومكانته الدلالية والحضارية والقدرة على تبادل النظرات مع رواده وناظريه يكون النص بجماليته قطع مسافة المألوف والمبتذل نحو قمة الوعي بأهمية الكلمات والصور وتشكيلها وفق سياق معرفي وقيمي تدركه الشاعرة بعقلها قبل قلبها، وهذا يضع النص في كينونته الفنية والنصية والسياقية والهادفة نحو تقديم رؤية شاعرية ومعرفية ذات أبعاد دلالية تثري قاموسه الإدراكي والثقافي. وهذا ما يدل عليه توارد الصور الموحية في “يشاهدني قاسيون” و “الذي يأخذُ النّورَ منْ وجْنتيكْ” ليكون للصورة هنا دلالتها الجمالية والمشخصة لحالة الجبل برمزية المكان والأرض التي يتربع فوقها، وحين يتحول الجبل نفسه لبستان كوني فيه خيرات كثار في “وأُثمرُ بشْرى … على ساعديكْ.”
أما في اللوحة الشمعية الثانية فتتواصل وتتجاور الصور الدالة على أسطورة المكان المتحول لأرض حصبة تثمر بوحاً وسنابل وجمالاً وأمنيات، حيث بوح السنابل و الزهر المتفتح على حياة جديدة ومتجددة وحيث الغيم المتساقط نورا، دليل التماهي الحميمي مع المكان نفسه والأرض ذاتها، ويصبح شمساً لها قامة من نور وضياء، وتعلن الشاعرة تحديها للتشظي والقلق والتوتر، حين تسأل الجبل في حوارية دالة على ارتباط الإنسان بالمكان المؤسطر في وعيه ورأيه “سألْتُ عنِ الحزْنِ” في العينين الوسيعتين، لكنها تدرك سر انهزام الحزن أمام إرادتها وتحديها وسامق أحلامها، و تعلن “لكنّني غبْتُ في النّورِ
يخْرجُ منكَ اشْتياقاً
ويغْمرُني بالصّباحْ “
فهي صيغة تبعث على التفاؤل المطلق بقدوم الصباح الذي يحمل في ثناياه تباشير الخير والحرية والكرامة والنور.
وفي اللوحة الثالثة من فضاء النص تبحث الشاعرة عن ثراء معنوي آخر لقاسيون بكل دلالاته وجمالياته في المكان وعبر الزمان، حيث:
منْ وراءِ البراري الرحيبةِ
ها يُقبلُ الآنَ ،
أبْناؤُكَ العاشقونْ …
….
يفْترشونَ سجاجيدَ أرْواحِهمْ
في ذراكْ …
وتبقى الذات الشاعرة تسترجع ماضيها الوضاء فوق جبل قاسيون وحوله، حين تشكله في خيالها ووعيها:
ورْدةٌ منْ بياضِ الطّفولةِ
تفاحة ،
وفصولٌ تخبّئُ أشْواقَها
ومداها الحنونْ …
—-
ثم:
وأحْملُهُ في دمي
وأُغنّي الورودَ التي أينعتْ
في دمِ الأرضِ نوّارةً
كي تمرَّ السّنونْ …
قاسيونْ
وحين نأتي لمساحة الشمعة الرابعة تطل علينا صورة الجبل البريء مثل طفل وديع يحمل بشارات الانبعاث من بين ركام الماضي وذكريات الحاضر وأحلام المستقبل، فالجبل “جميلٌ أنتَ … في نومِكْ … وفي صحْوِِكْ” أي في كل مراحل التطور الرؤيوي والجمالي وفي مراحل التشيؤ والتكوين والتلألؤ. وحين تكثف الشاعرة عشقها وحميمتها مع الجبل رمز الوطن والحب والجمال والانتماء والولاء والالتصاق بالمكان، حين يتحول مصدر إلهام،
“وتورقُ في دمي الأشْواقُ
منْ وهْجِكْ
ومنْ ألْحانِ أنْفاسِكْ “
ويدل التصوير هنا على توحد الجسد الإنساني بالأرض وعلى مكانٍ لا يمكن أن تفصله السنون عن جسد المواطن العادي. ولهذا نجد الشاعرة تعبر بالتكرار والتجاور والتكثيف عن مكنون مشاعرها وأحاسيسها المتأججة إزاء الوطن وأمكنته الأجمل حين تقول:
وأصْعدُ بيدرَ الأحْلامِ
كي أحْظى
بحلْمٍِ منْ شذا ورْدِكْ
فهي تصر على القيام بدورها الوطني والحميمي، و تقوى هنا على ممارسة طقوس العشق مع المكان ذاته، تتوالد فيه مشاعرها المتجددة إزاء المقدس والوطني والتراثي والحضاري والثقافي، رغم حالة الغربة والاغتراب:
ألمُّ النَّارَ منْ درْبي
وأزْرعُها بليلِ الغرْبةِ الصَّمَّاءِ
كي أجْلو
دروبَ الحُبِّ
في ليلِكْ
وخلاصة القول الفصل يكمن في تلافيف الصور المترادفة والمتوالدة من صميم القلب الذي يعشق المكان حيث:
.. الشّمسِ
نبْصرُ ضوءَنا المجنونَ
مثْلَ النَّبْعِ
يصْعدُ منْ ذرا الكوكبْ
وبتوظيفها لمكنونات الجمال وتقنيات المجاز المتعددة والمتراتبة والمنزاحة ضمن موسوعة معرفية تأبطت تفاصيلها الشاعرة نجح النص في التحول لجدارية كبرى تتزيا بها ذاكرة الكتاب والشعراء وأسفار التاريخ والأدب. وتبقى النتيجة القصوى لهذا التواصل والتفاعل:
هاهُنا وطنٌ ،
نُحيّيهِ …
ونصْعدُ في مواسمِهِ
ربيعاً
منْ هوى صوتِكْ …
جميلٌ أنتَ
في نومِكْ،
وفي صحْوِكْ
وهنا تراتب الصور يكمن في تقنية التكثيف والانزياح كي تلم الشاعرة بكل جنبات اللوحة وألوانها وحبرها وتعبِّر عن كامل تفاصيلها بدقة متناهية وموفقة حد الإبداع نفسه.
والنص أخيراً مدعاة فخر واعتزاز بالمكان والأرض والوطن المفدى هنا أو هناك، حيث قاسيون وما يتماهى معه أو يتوحد في خلاياه.
د. عبدالله حسين كراز
غزة – فلسطين
كتب في قسم: فضاءات نقدية | عدد التعليقات 3 | 2٬875 views
عدد التعليقات 3 في “الشاعر والناقد الفلسطيني د. عبد الله حسين كراز يكتب عن قصيدة عصفورة قاسيون”
السلام عليكم
الى د.عبدالله كراز
لك كل التحيه والشكر والتقدير والاحترام على هذا المجهود الطيب
واتمنى من الله مزيدا من التقدم والنجاح والابداع
لانك انسان عظيم ونشيط
والى الامام
السلام عليكم ،
كل الإحترام إلى د.عبد الله كراز على كلامه الرائع .
السلام عليكم .
نقدك الجميل أضاف للقصيدة روحا وجمال .
كل التقدير لرؤيتك المبدعة .