قراءة في ديوان ( صحوة النار والياسمين ) للشاعرة : إباء إسماعيل ,, محمد وحيد علي
فبراير 6th, 2010 بواسطة إباء اسماعيل
في ديوانِها الخامسِ ( صحوة النار والياسمين ) بعدَ ثلاثةِ دواوينَ للكبارِ
وواحدٍ للأطفال … تبدو الشاعرةُ إباء إسماعيل كمنْ يحْملُ جمْرَ الشِّعرِ في قلبِهِ وروحِهِ , وينثرُهُ على الدّروبِ والكائناتِ … هكذا كما تُنثرُ أزهارُ الياسمينِ على القاماتِ والدّروبِ الحالمة …
ويتبدّى الشِّعْرُ كائناً حيّاً يتنفّسُ عبْرَ الكلماتِ والإيقاعاتِ , سابحاً في فضاءاتِهِ الْمُبتكرةِ , باسطاً فسحاتٍ من التأمُّلِ , والخيالِ , والموسيقا …
وتتحوّلُ اللُغةُ والعباراتُ إلى اشاراتٍ إيحائيةٍ ماثلةٍ في القصائدِ التي شكَّلتْ جسدَ الديوانِ عبرَ تلاحماتٍ مشهديّةٍ تنوّعتْ بألوانِها , وظلالِهَا , وعلاقاتِها الدّالةِ والموحيةِ , والتي جمحتْ باللُغةِ … كما تجمحُ خيولٌ رامحةٌ في صحراء مفتوحة ..
وهي تضعُ عينيها في الوقتِ ذاتِهِ على الْمُنْجزِ التعْبيريّ المألوف … حين يفْرضُ الموضوعُ – بوصفِهِ واقعاً – ظلالَهُ الواقعيّةَ , والوقائعيّةَ على النصِّ الشِّعريّ بغيّةَ تجاوزهِ ورفْعهِ إلى مراتبِ الفن .
وبين ما هو تجاوزيٌّ في اللُغةِ والإيقاعِ والصّورةِ والمبنى والمعنى , وما هو مألوفٌ ضمنَ الإنجازِ الشعريِّ العامِ , نجدُ الشاعرةَ إباء إسماعيل متألّقةً في بحثِها المتواصلِ عنْ ينابيعِ الشعرِ , وعنْ علاقاتٍ جديدةٍ للّغةِ والتعبيرِ الدّالِ , وهي تغوصُ عميقاً في تجربتِها وكينونتِها الشعريّةِ التي تجتهدُ كثيراً لتجعلَها متوهّجةً برَّاقةَ , وفاعلةً تسيرُ قُدُماً على طريقِ الشِّعر :
وتحضُنُنا الحواسُ العشْرُ
نُبصرُ ضدَّنا الآتي
ونُبصرُ مثْلنا
في الشّمسِ
نُبصرُ ضوءَنا المجنونَ
مثلَ النَّبْعِ
يصْعدُ منْ ذرا الكوكبْ …ص17 – 18
صحوة النار والياسمين : صرخاتٌ تعبيريّةٌ تحملُ شحناتِ الشَّوقِ , والانتماءِ
إلى كلِّ ما هوَ جميلٌ ومضيءٌ في هذهِ الحياة … بدءاً منَ الشَّوقِ إلى منابعِ الضّوءِ والتفتّحِ الأوّلِ على مدارجِ الطفولةِ , وصولاً إلى سنواتِ الغربةِ , وانغماسِ ذاتِ الشاعرةِ بما يُشبهُ التَّوقَ الأبديَّ , للبحثِ عن طفولةٍ هاربةٍ , وعن فردوسٍ مفقودٍ وعن حلمٍ عصيٍّ , حلمٍ ترفعُهُ بقوّةِ الشِّعرِ لتبدّدَ الظَّلامَ , وتطلقَ عصافيرَ الفرحِ على الرّغمِ منْ قتامةِ الغمامِ الذي يُسربلُ الفضاءَ , ويغطّي مشاتلَ الأرضِ بكثافاتِهِ اللزجة :
آنَ لنا
أنْ نخْتمَ الأنباءَ والجراحْ
بقبلةٍ فوقَ التّرابْ
وقطْرةٍ
قدْ ساقَها السّحابْ
آن لنا أنْ نختمَ الليلَ
بأنباءِ الصّباحْ
دمٌ … دمٌ
فكيفَ يُستباحْ ؟ … ص 47
إنَّ الشاعرةَ إباء إسماعيل معنيّةٌ بإزاحةِ ستائرِ التّرابِ , وحُجُبِ القتامةِ بحثاً عن ضوئِها الخاص , ضوءٍ تلاحقُهُ , وضوءٍ تصنعُهُ عبرَ تآلفِ لغتِها , وجدّةِ إيقاعِها , وغنى خيالاتِها التصويريّةِ التي تجعلُ منَ القصيدةِ نسيجاً كليّاً طافحاً بالحياةِ قبل أنْ تجعلَها نشيجاً للتفجّع , وسفحِ الآهاتِ المستسلمةِ لواقعٍ مرير :
أناملُ وردٍ
تخطُّ نجومَ المساءْ …
فيهطلُ زهرُ السّماءِ
عليَّ
ويصْحو بقلبي الضّياءْ … ص 27
إنّهُ التوقُ المتواصلُ إلى وطنٍ تحبُّهُ … إلى وطنٍ تعتبرُهُ أُمَّها وأباها … وتماهي ذلك الوطنِ مع روحِ عاشقٍ أكسبَها ازدهارَ المحبّةِ , وتفتُّحَ الياسمينِ على جدرانِ المنازلِ ومنازلِ القلوب … فنرى الشاعرةَ مطْلقةً أجنحةَ النّورِ , وهي تلاحقُ آخرَ الطيرانِ في روحِها , واصلةً إلى حيثُ يريدُ الحلمُ , وإلى اكتمالِ الحلمِ والحالمِ في توحُّدٍ صوفيٍّ … أشبَهُ بتلاحمِ توأمينِ يسبحانِ في بُحيرةِ الشِّعر القلقة … حيثُ الأرقُ الإنسانيُّ , وقد تحوّلَ إلى بجعاتٍ مستحمّاتٍ على شواطئِ الغربةِ والمحيطاتِ اللاطمة :
وأنا وأنتَ
حمامتانِ
تحُمْحمانِ الضَّوءَ
واللُغةَ الغريدةَ
في مدائنِ غرْبتينْ
أ لأنَّنا طيرانِ في أُفقِ الصّدى
نطوي جناحينا ربيعاً كالسَّناءْ … ص 8
إن التآلفَ مع الموتِ , وتحدّيهِ معنويّاً هوَ انتصارٌ عليه … نلمحُ ذلكَ من خلالِ موتِ الأبِ , وإحساسِ الشاعرةِ بفاجعةِ هذا الموتِ الذي عليها منذُ هذهِ اللحظةِ أنْ تألفَهُ لأنَّهُ احتضنَ جسدَ أبيها المسجّى بين يديه …
هنا تصلُ الحالةُ التعبيريّةُ إلى أقصاها المتجاوزِ لما هوَ مألوفٌ عن الموتِ بوصفِهِ سارقاً يسرقُ الغوالي , وخاطفاً يخطفُ المحبّينَ والمحبوبينَ , أو قاهراً مكروهاً يقْهرُ الجميعَ بسلطانِهِ الصَّاعقِ الذي لا فكاكَ منه :
كيفَ تجرأتُ على الموتِ
كأني أعرفهُ
منْ زمنِ الوطنِ
الغارقِ في الموتِ
إلى زمنِ الغربهْ ؟ ! … ص 73
إن امتدادَ الأبِ في ذاتِ الابنةِ الشاعرةِ هوَ امتدادٌ للجذْرِ الإنسانيّ الممتدِّ إلى أُفقِ الشاعرةِ وأيامِها القادمة … تقول :
مَدَّ جناحيهِ خيوطاً بيضاءَ
لكي يُشعلَ ليلي أقماراً
كالأزرقِ
في عينيهِ الخابيتينِ
الْمُبصرتينْ … ص 77
وتظلُّ الكلماتُ أنهاراً جاريةً في الرّوحِ تؤجّج الشِّعرَ والأحلامَ , وقد تحوّلتْ عينا الأبِ إلى شرفتينِ مضيئتينِ تحتضنانِ الشاعرةَ في ليلِ غربتِها الطويل :
أبتي …
ستظلُّ الذّكرى في كلماتكَ
تقْذفني
في لججِ الشِّعرِ
الحلمِ
الأرضِ المسكونةِ
منْ وَهْجِ سَناكْ
أبتي ! …
مازالتْ في هذي الغربةِ
تَحْضنُني عيناكْ … ص 83
وفي التفاتةٍ أخرى إلى قصائدِ ديوانِ ( صحوة النار والياسمين ) نلمحُ توهُّجَ المكانِ وقد اكتسبَ أبعاداً شعريّةً … فهناكَ الشّامُ بما تعنيهِ , وقاسيونُ برمزِهِ العالي … وهناكَ الكثيرُ من الحنينِ والاشتياقِ الذينِ يغلّفانِ كلا المكانين , وتعتبرُهُما الشاعرةُ جذراً لانتمائِها , المكانيّ والرّوحيّ … تقول :
يا شامُ
يا نشيدَنا
يا خبزَنا
يا نارَ حربِنَا
وحبرِنا
وحبّنا
ويا ثمارَ صرخةٍ
لطفلِنا … ص 48
وتخاطبُ الشّامَ كعاشقةٍ أبديّةٍ تتوقُ إلى ضيائِها وعبقِ تاريخِهَا :
أرى سناكِ مزهراً
كواحةِ الضّياءْ
أراكِ كلَّ ليلةٍ ريحانةً
تطفحُ بالنَّماءْ
يا عبقَ التّاريخِ والإباءْ … ص 48
وتقولُ للشّام إذْ تراها خيمةً تلمُّ المحبّينَ , وشجراً يصدُّ الرّياحَ العاتيةَ ويقاومُها:
يا شامُ ! …
ها أناملي تناغمتْ
في دفترِ البطاحْ
وصرتُ فيهِ لؤلؤاً
وأنْهُراً
لأغْسلَ الجراحْ
يا شامُ
ظَلّي خيمةً تلمُّنا
أو شجراً
يقاومُ الرّياحْ … ص 50 – 51
وتخاطبُ البُعدَ المكانيَّ الآخرَ الدّالَ والرَّامزَ ( قاسيون ) تقول :
قاسيونْ
منْ وراءِ البراري الرّحيبةِ
ها يُقبلُ الآنَ
أبناؤكَ العاشقونْ
يُقبلونَ
كغيمٍ تفتّحَ في الأُفْقِ
يفْترشونَ سجاجيدَ أرواحِهمْ
في ذُراكْ
قاسيونْ
وردةٌ من بياضِ الطّفولةِ
تفاحةٌ
وفصولٌ تخبّئُ أشواقَها
ومداها الحنونْ … ص 14
وفي شغفٍ آخر , شغفٍ موازٍ ومتوازنٍ يُعلي من أشجانِ الرّوحِ القلقةِ ويرفعُها إلى مراتبِ الفنِّ والسّمو … يحتضنُ الحبُّ أطيافَ المحبوبِ التي تنسجُها الشاعرةُ على مغازلِ الرّوحِ , وهسْهسةِِ النّار الشَّفيفةِِ التي تُسقسقُ في الشَّرايين … تقول :
قمرانِ يشتعلانِ
في حضنِ الغيومِ
كنبضةٍ وَلْهى
جريئةْ
في الشّعرِ يغْتسلانِ منْ تعبٍ
وفي قلبيهما
تشْدو نبوءهْ … ص 85 – 86
وتلكَ الأسئلةُ تنْداحُ مقاطعَ متآلفةً أشبهُ بقصائدَ مكثّفةٍ طافحةٍ برفيفِ أجنحةِ الشِّعرِ وعذوبتِهِ :
كيفَ اخترقتْ روحُكَ
خمسةَ أقمارٍ
وجدارْ ؟
كيفَ قطعتَ ثلاثينَ صباحاً وكوكبْ
ونثرْتَ ربيعكَ فوقَ ضلوعي
شمساً ونَهارْ ؟ … ص 86
إنَّ الشاعرةَ عاشقةٌ تبحثُ عن صدى روحِها في الأخرِ مثلما هيَ متمسّكةٌ بهذا التوحُّدِ الذي تعيشُهُ على امتدادِ قامتِها وروحِها :
وألاحقُ الصَّوتَ المسافرَ
في لهيبِكَ والبحارْ
تَهْفو رؤايَ
إلى رؤاكَ بَهيّةً
لكنّني أبقى السّجينةَ
في متاهاتِ الغُبارْ
صوتي وصوتُكَ
كالصَّدى والصّوتِ
إذْ يتعانقانِ مَدىً
وأغنيّةً
على عشْبِ النّهارْ … ص 92 -93
وفي عودةٍ إلى افتتاحيّةِ الديوان حيثُ توحّدُ الذّاتِ والآخرِ , وانعتاقُ الحلم والتّوقُ إلى فضاءِ الحبّ وكلُّ ما منْ شأنهِ أنْ يرتقيَ بالإنسانِ إلى درجاتِ التحقّقِ والاكتمال والإندغام فيهِ , والتمسّكِ بهِ حتى آخرِ فضاءْ … تقول :
أتأمّلُ الصّبحَ النديَّ
يلفُّ روحي
حين تتْبعني خُطاكْ
وألُمُّ ماءَ الحلْمِ
كي أسْقي رؤاكْ
والسّرُّ في عينيَّ
أنتَ ضياؤُهُ
وفضاؤُهُ
والصّبْحُ منْ وهَجِ المحبّةِ
جاءَ يشْدو في رُباكْ … ص 6
يطفحُ ديوانُ الشاعرةِ إباء إسماعيل ( صحوة النّار والياسمين ) بأسئلةٍ كبيرةٍ وصغيرةٍ , أسئلةٍ مفتوحةٍ لا جوابَ لها , أو أنّها غيرُ معنيّةٍ بأيّةِ أجوبةٍ … طالما أنّها تجترحُ الأسئلةَ , وتفتحُ مدلولاتِها على أقصاها التعبيريّ الموحي … وكأنّها تبثُّ شرارتِها الشعريّةَ لتحرّكَ السَّائدَ , وتشيرُ بإشاراتِها الداخليّةِ , مضيئةً فسحةً منَ الخرابِ الذي يعصفُ بنا , بغيةَ أنْ نتنبَّهَ , ونستفيقَ , ونعملَ على تجاوزِ هذا الخرابِ الذي يلفُّنا معَ إصرارٍ على بقاءِ الأنقى والأجملِ , وأنَّ النّورَ لا بدَّ آتٍ مهما اشتدّتْ عتمةُ الظَّلامِ , ومهما طغتْ قطعانُ السّراب … تقول :
سألتُ : هلْ يحترقُ التّرابْ ؟
وهلْ تغيّرُ الرّياحُ
وجْهةَ السَّفينِ
والسّرابْ ؟
فأزهرَ الرّبيعُ في كفّي سنىً
وغرّدَ السّحابْ … ص 21
في الشِّعْرِ أسرارُ النّار , وألوانُ الشَّفقِ المتداخلةُ , ورائحةُ الحبقِ المصلوبِ على المدى والسّحاب… إنّهُ احتراقٌ مختلفٌ متجاوز :
حينَ احترقْ
قال : بأنَّ النّارَ قد أعطتهُ سرَّها
ولوّنتْ يديهِ بالشَّفقْ
وأنّهُ على المدى
قَدْ علّقَ السّحابَ والحبَقْ
لكنّهُ
كيفَ احترقْ ؟… ص 21 – 22
ثَمَّةَ الكثيرُ منَ المحطّاتِ الهامّةِ , والجديرةِ بالتوقّفِ , والإضاءةِ, في ديوانِ الشاعرةِ
إباء اسماعيل … والتي تبدو فيهِ شاعرةً حقيقيّةً جادّةً في البحثِ عن صوتِها الخاصِ وفرادتِها الإبداعيّةِ , على طريقِ الشِّعرِ الطويل … وإنَّها على الرغمِ من غربتِها , مصرّةٌ على التواجدِ الدائمِ في خضمِّ الشِّعرِ , وخضمِّ الحياةِ , طائراً مُحَلّقاً في فضاءِ الطّفولةِ , والأُنوثةِ الْمُبدِعة .
________________________________________
هامش :
( صحوة النار والياسمين ) ديوان شعر – تأليف : إباء إسماعيل –
صادر عن وزارة الثقافة السورية – الهيئة العامّة السوريّة للكتاب / 2009 /