الشاعر محمد وحيد علي يكتب عن ديواني أغنيات الروح
يناير 27th, 2009 بواسطة إباء اسماعيل
قراءة في ديوان أُغنيات الروح …
محمد وحيد علي
نُشرت في جريدة الأسبوع الأدبي
بعيداً عن الضجيج الإعلامي والتسابق على النشر في الصحف والمجلات تعمل الشاعرة إباء إسماعيل على تجويد قصائدها والدخول في غابات الشعر محلّقة في فضاء بهيّ من العذوبة الآسرة. وقد انحصر همُّها في تعميق عالمها الشعري الذي يقترب رويداً رُويداً من خصوصيته وجمالياته.
إنَّ قدراً من التوازن البنائي والمعماري قد شكّل قصائد إباء الشعرية.. هذا التوازن الذي اعتمد التفعيلة وروافدها وإيقاعاتها غير الساكنة والتي تحركّت ضمن فضاء من الحرية.. حريّة البوح وتألّق اللغة التي لم تركن لسائديّتها ومقرّراتها.. بل جاءت لغةً تصويرية دالةً وموحية.. لغة تحاول أن تعيد تشكيل العالم شعريّاً.. لغة تحتدم فيما بينها لتخلق تواصلاً جديداً ذا دلالات غنيّة وإشارات بسيطة وعميقة من شأنها أن تتجذّر في العمقِ الشعري.. فاتحة المخيّلة على أقصاها لتشرب من ينبوع الشعر الدافئ.. الشعر الذي يجعل الروح تقترب أكثر فأكثر من جحيمها وفردوسها..
والشاعرة إباء إسماعيل التي آمنت بالشعر طريقاً للحريّة طريقاً لتجاوز المعاناة.. معاناة الغربة التي تحياها الشاعرة على الصعيد الذاتي والموضوعي. فغربتها غربتان: غربة في المكان حيث تعيش الشاعرة بعيداً عن وطنها تفصلها عنه تخوم وبحار.. وغربة في الروحِ وما تعانيه..
غربتان تنخران وتدقّان أعصابها لتخرج قصائدها، موشّاة بمعرفة خاصة ومعاناة تنسحب على مجمل ديوانها الثاني “أغنيات الروح” هذه الحرقة التي لم تتوقّف وتسكن بل حاولت دائماً أن تخرج إلى ما هو أرحب وهي تصعد إلى فضاء المعنى المفتوح مشكّلة تواصلها المنشود مع الآخر المتلقّي عبر عزفها المستمرّ على أوتار المشاعر وكمان الروح الذاتي الذي يخلق مشاركته المتّصلة والمتواصلة مع الإحساس الجمعيّ للتجربة الحياتية والإنسانيّة..
وإذا كانت الشاعرة إباء إسماعيل قد تحرّكت ضمن أقانيم ثلاث وأعني (الغربة – الحلم – الحب) فإنها كثيراً ما ابتعدت إلى أطياف هذه الأقانيم لتشكّل عالمها الشعريّ المتجانس والمدروس وقد امتلك قوّة تنظيم الفوضى والنهوض بالمعاناة إلى آفاقها الرحبة التي لم تنغلق على حدودها.. على اعتبار أنّ الفنّ هو التوازن الخلاّق.. وهو التوازن القلق الذي لا ينفكُّ يبحث عن حرّيته ومداه..
وإذا كانت هذه الأقانيم وأطيافها قد توزّعت وتمازجت وتجاورت في قصائد الشاعرة. فإنها تشكّلت عبر صور شعرية غنيّة وهي ترسم عالمها الغنيّ، عالمها الجماليّ الموازي للواقع المعيش الذي يطفح بقسوته الموحشة.. فيتقدّم ما هو تخييليّ وفنيّ على ما هو تسجيليّ.. وهذا من بديهيات الفن عموماً ومنه الشعر.
والشعر عند إباء تراه هامساً أحياناً وصارخاً أحياناً أُخرى مُقدّماً للعالم مشروعيّته ورؤاه الطافحة والطامحة بالتغيير والرقيّ، والمتألّقة على درجات المشاعر والأحاسيس..
حيث الشعر توأم الروح في تجلياتها وتطلّعاتها إلى التحرر والانعتاق من وطأة السائد والمقرّر إلى آفاق الشعر والحلم والحب..
إن الإحساس العارم بالغربة لم يفقد الشاعرة تحليقها في فضاء الأمل.. الأمل الذي ظلّ يرسم الأُفق بكثير من الحب وقد امتلأت الشاعرة بيقين الحلم وتجاوز المحنة.. حيث تستطيع أن تبطل وطأة الغربة بصخب الأناشيد وارتعاش الزهور في حدائق الجسد والضوء:
ها غريبان نحنُ
حدائقنا الآنَ طافحةٌ بالزّهورِ
وأناشيدُنا صاخبةْ..
نحنُ في أوّلِ الحلمِ
أغنيةٌ مورقةْ
نحن في آخر الضوءِ
زنْبقةٌ راعشةْ.. (ص11)
وهاهنا الشاعرة تتلبّس جسدَ الطفلِ الشهيدِ وروحه وقد تحوّل جسده إلى صرخة مدوّية وإلى جرح عميق وإلى حلم آخر.. إنه طائر القطا الذي يحوم في البراري وهو يحسّ بأنينٍ ووجعٍ وانكسارِ أُمَّةٍ.. مع إصرار عجيب على النهوض:
طالعٌ من دمي
كالسَّنا والحنينْ..
جَسَدي في الفلاةِ قَطاةٌ
وروحي تحومُ على وردةٍ
منْ أنينْ..
فأنا صوتكمْ
وأنا جرحكمْ
وأنا ما تبقّى لكمْ
من زهورِ السّنينْ!.. (ص27)
والشاعرة إباء إسماعيل تتماهى مع الشعر فهو وجودها وهو حلمها وهو الذي يقود روحها إلى بهائه الساحر ودهشته الفاغمة وضوئه الساطع.. وهي إذ تتمسّك بالشعر فلأن روحها الشاعرة قد تداخلت وتمازجت معه حتى صارا روحاً واحدة.. روحاً تتطلّع أبداً إلى منابع الضوء والحريّة:
اِشْعلْ يا شِعرُ وجوديْ
واطْعمني منْ ثمر الدَّهْشةْ
اِشْعَلْ يا شِعْرُ وجوديْ
وَازْرَعْني نَخْلاً
فِي حقْلِ الضَّوءِ الأَبَديْ.. (ص32)
كما أن الوطن بمفهومه الشامل لم يغب لحظة عن مكابدات الشاعرة فقد ظلَّ تلك النخلة الباسقة التي تحنّ أبداً إليها.. لقد ظلّ الجذر والحلم القديم.. ظلّ الأرض الأبهى التي تقف عليها بقوّة وصلابة وكأنّ حبلاً سريَّاً يربطها من روحها ويشدّها إلى وطنها الأم:
أضيءُ يديكَ
كأنيَ نجمةُ صبْحٍ غريبةْ..
أضيءُ يديكَ
كأنيَ في الشعرِ نورٌ بهيٌّ
يطيرُ إلى أرضِ أُمّي الحبيبةْ..
كأنّ دمايَ طيورٌ
تعودُ إلى وطني
مطراً
مسْتهامْ.. (ص49)
ثمَّ هذا الشوق إلى الإياب.. إياب الإبنة التي ابتعدت في المكان واقتربت كثيراً بمشاعرها وروحها وهي تعودُ مع الفجر القادم مردّدة أناشيد الحلم:
غربةٌ تنْهشُ الروحَ
لكنّ شوقي إلى الأرضِ
والأهلِ
والحُبِّ
عصفورةٌ
ستؤوبُ إلى أُفْقها
وتغني مع الفجرِ شوقِ البلدْ..
غربةٌ..
وأردُّ عذاباتها
بالنشيدِ المغرّدِ
والحلمِ
أطلعُ من وهْجها كالحمَامةِ
حين تُحلّقُ مسْرورةً
في فضاءِ الأَبَدْ.. (ص 57 – 58 – 59)
وفي هدأة الليل الحالم.. الليل الذي يعيد الذات إلى فضائها ويجعل الحُبّ شراعاً إلى الحلم والانعتاق.. حيث كلّ شيء بهيٍّ وآسر.. حيث أصوات الموسيقا تُعمّر الروح وتجعل الوقت مغْتسلاً بالحب والضوء:
الليل موسيقا
وأنتَ النورُ،
يقفز من سرير الوقْتِ
يمرحُ في دمي
كالياسمينْ.. (ص 62)
ثم هذا الامتزاج بين الليل وحبر القصيدة، بين البحر وبين النور الذي يدخل أنفاس الموج مالئاً إياه بصخب فاتن وتناغم مضيء:
اللَّيلُ حبرٌ
مثلما بحرُ القصيدةِ
أزرقٌ
والموجُ في أنفاسها،
زهرُ اليقينْ!.. (ص 63)
فكأنّ الشعر جذرها ومسْتندها.. منه تنطلق وإليه تسكن وكأنّه النار التي كتب لها وعليها أن تحرق ثلج البعاد والغربة :
أبداً سأبقى في القصيدةِ
ما تُحبُّ
كأنّني نارٌ
لتكتبني على ثلجِ البعادْ.. (ص65)
إن عويل الروح أقسى على الشاعرة.. وكأن هذا العويل قطعان وحشية تنخر في روحها وتشدّ على جسدها وها هي تقاوم سيل العدم الذي يتدفّق إليها عبر لحظات اغتراب عميق، معلنةً مقاومة هذا الاغتراب عبر الكثير من الشجن الشفيف الذي يغلّق المشهد بغلالة بهيّة:
وأطاردُ في غربتي
واغترابيَ
قطعانَ هذا العويلْ..
وألمّ تضاريسَ روحي
وأجمعُ أنْهارَها
كي تنصبَّ صباحاتها
في صباحِ النخيلْ..
وأُسمّي ندائي إليكَ،
السّنا الذي قامَ
منْ بذرةٍ
وَانْتهى قمراً رائعاً
في كرومِ المساءِ
الطويلْ.. (ص 68-69)
وفي محاولة للتغلب على الغربة والقفز منها إلى آفاق رحبة عبر الشوق والحنين الذي لم ينقطع خلال حياة الشاعرة وإصرارها الكبير على الارتقاء بمعاناتها الذاتية إلى أُفق إنسانيّ عام.. حيث العودة إلى أحضان الوطن الذي يشبه ربيعاً أخَّاذاً وقد بدأ يتفتّح.. حيث أمواج الضوء تتدافع لتغطّي الأُفق المترامي الذي يقترب من الشاعرة رُويداً رويداً أو أن الشاعرة هي التي تقترب منه بقصائدها ومكابداتها التي تشبه طيوراً حالمةً أبداً بالرجوع إلى أعشاشها:
ها أضيءُ مع الموجِ
في غربتي
وأُهجّي اشتياقي ربيعاً
وأهتف يا وطني
وحبيبي
الجميلْ.. (ص70)
وفي لحظة ما.. كادت الشاعرة أن تتماهى مع الغربة حيث فقدان البعد الثالث الذي يربطها بالعالم.. فهي تتساءل إن كانت تعاني الغربة أم أنها الغربة ذاتها؟..
وقد استحالت بجسدها وروحها إلى ما يشبه اليقين.. ولا بدَّ من أن تسْتصرخ الآخر البعيد أو القريب، الحقيقة أو الحلم الذي نتمنّى أن يخرج هذه اللحظة ويخرجها من إحساسها العارم بوطأة هذه الغربة وفداحتها:
أأنا الغربةُ؟!..
كنتُ غريبةَ هذا المنفى
كنتُ النورَ
وكنتُ النَّارْ..
أتلفّتُ..،
هل يطلعُ وجهكَ،
هذا اليومَ نهارْ؟!.. (ص74)
وتبقى الأسئلة معلّقة.. لعلّها أسئلة الشعر والكون.. أسئلة الحب والحلم الذي يتسلّل رغم قسوة العالم ووحشيّته الحلم الذي يتحوّل إلى درعٍ واقٍ وسفينةٍ أخيرة ليعبر الناس عليها إلى أرض الشعر والكبرياء.. حيث الرقيّ والحضارة يقودان الإنسان إلى فردوسه المأْمول:
أتراني،
أسْطعُ فوق الحزنِ
كما الصُّبْحُ الولْهانْ؟!..
أتراني أُشْرقُ
في المَنْفى
فأَراكَ تُفيّقُ ،
في قلبي البُسْتَانْ؟!..
فاطْلقني كالرِّيحِ إليكْ
لا توقفْ هذا النَّهْرَ،
عَنِ الجَرَيَانْ!.. (ص80)