من دمشق: الصحفية السورية باسمة حامد تُحاورني
يناير 21st, 2009 بواسطة إباء اسماعيل
من دمشق: الصحفية السورية
باسمة حامد
تُحاورني
إبــاء اسـماعيل
السؤال الأول :
– يقال أن الشعر فرصة لتحرير الألم والحنين و العشق..ما هو الشعر بالنسبة لك..ماذا يمثل ؟
قصيدتي هي أنا وجميع تفاصيل الكون تتداخل بها معي.
الكون هو الشّعر وأنا جزءٌ من هذا الكون الكبير.. أنا جزءٌ من الشعر في الوقت الذي هو يسكنني ، يعيش في داخلي ويصبح جزءاً مني !
الشّعر مَلِكُ أحلامي وصديق روحي الذي يعلّمني سموّ اللغة و بَوح النبض العميق و جرأة ذوبان المشاعر تلك التي تحتويها أنفاس الكلمات، عبر النّسر الذي يخرج مني ويحلّق في فضاء الانسانية ، هذا الذي أستمد منه قوّة اللحظة الشعرية الخاطفة التي تأسرني وتُخيفني من توهّجها وتحليقها
الشعر أعيشه حالة إبداع ..حالة عشق دائمة لعالم انسانيّ، كوني، روحي، غريب، يحتل ذاتي ،حالة جنون مشاعِر حادّة العقلانية حيناً وحادّة الجريان الشعوري أو اللاشعوري حيناً آخر . ولكنّها بالتأكيد غير مُبَرْمَجة على أية قناة خارجة عن أنفاس هوائي الطلق!!
هو كائن حي يعيش داخل وخارج كياني على حدٍّ سواء. يأسرني ، يأمرني ، يحررني ، يقيدني، هو ثورة تخرج من أعماقي على هيئة أحرف وكلمات وأسطر لها ملامح وعيون وشفاه و أطراف لربما تكون أجنحة أو زعانف !!!
الشعر كائن حي يلاحقني كظلّي ، يقرأني من الداخل بلارتوش ، وأقرأه وطناً وغربةً وحبيباً وطفولة .. يصادقني ، و أمتطيه نوراً في عتم وجودي ووجود الكون الانساني. هو أبجديتي الحقيقية الأسمى .. وأنا مازلتُ أتعلّم أبجديته في حرفِها الأوّل!
السؤال الثاني :
– برأيك..هل مازال الشعر العربي بخير؟..و هل ثمة مكان للشعر أصلا في عصر الثورة المعلوماتية و الاتصالات أم أنه فقد معناه فعلا؟
في كل العصور، وفي كل اللغات، هناك شعر جيد وهناك شعر رديء يطفو على السطح. ولاأشعر بالقلق على الشعر العربي لأنني أعتقد بأنّ الشعر العربي الذي هو بخير ، سيصمد أمام العواصِف لأنه سيُنْحَت على صخرة الزمن وآثاره لن تُمحى. وماتبقى سينقش على الرمال إلى حين ويزول مع قدوم أوّل عاصفة أو موجة .
الشعر روح والثورة المعلوماتية مادة
والسؤال: إلى أي حد ممكن أن تستفيد الطاقة الروحية في ذات الشاعر من التفاعُل مع المادة الثقافية المذهلة التي تتلقاها عبر الانترنيت مثلاً؟!!
أرى بأنهما يتكاملان لايتنافران في حالة إذا أتقن الشعراء فن استخدامها لتفجير طاقاتهم الشعرية لاتبديدها. كيف؟!!
طاقة الشاعر الابداعية قد يذرفها وقتاً وجهداً في مساحات انترنيتية زمانية ومكانية توصله إلى الفراغ أو الضياع لأنها أحياناً تكون مُضَلِّلة!!!
وقد تأخذ بيده إلى تفاعلات رائعة في ابداعات شعرية جديدة حين يكون واعياً ومُدركاً لخُطاه. التواصل الابداعي عبر الانترنيت ممكن أن يكون مذهلاً وممكن أن يكون مدمِّراً . هو باختصار سلاح ذو حدّين.
الشعر غاية وعصر الثورة المعلوماتية والاتصالات وسيلة. والمبدع الحقيقي هو القادر على تسخير الثورة المعلوماتية في خدمة هدفه الأسمى وهو الابداع لاالعكس . الشعر ينمو دون شك في ظل الثورة المعلوماتية لأن هناك الكثير من الشعراء الحقيقيين الذين استثمروا هذه الحداثة العلمية بذكاء لتطوير أدواتهم الشعرية وإغناء ثرواتهم اللغوية والشعرية والثقافية وتواصلهم مع أقرانهم الشعراء .
والشعر ثقافة وإبداع وخبرة حياتية غنية جاءت الثورة المعلوماتية كي توصلها إلى أفق أبعد وأعمق. بالمقابل، لايمكن أن ننسى على الاطلاق الجوانب السلبية لها حين يُصاب الشعر العربي بطفح جلدي من انتشار النصوص الرديئة التي تظهر كالطفيليات على الساحة الانترنيتة. هذه تؤثر سلبياً على الجيل الجديد من الشعراء الذي يُخشى عليه من فقد القدرة على التمييز بين الشعر الحقيقي و الشعر البائس الطفيلي الذي ظهر نتيجة سهولة النشر والانتشار التي أورثتها ثورة الاتصالات اللامحدودة واللامَشروطة.
السؤال الثالث :
– كما تعلمين نحن كعرب مستهدفون في ثقافتنا و حضارتنا ..و في هذا السياق بودي أن أسألك باعتبارك شاعرة عربية – أمريكية ..
هل يمكن للشعر أن يساهم في حوار الحضارات؟!
الشعرليس فقط يساهم في حوار الحضارات، بل هو حِوار حَضاري إنساني تلتقي فيه العقول والمشاعِر والثقافات وتتلاقح من خلالها تجارب الشعراء والقرّاء على حدٍّ سواء. وماتكوين تجربتي الشعرية إلا من هذا المزيج الحضاري الشرقي – العربي، والغربي – الأمريكي
هو مزيج من الشعر العالمي الذي تشرّبته منذ سنوات طويلة لأشدّ خيوطه الانسانية والحضارية إلى بعضها البعض رغم الفروقات والتناقضات في كثير من الأحيان. هناك دائماً حسّ شعري إنساني حضاري مشترك على المبدع أن يقتفي أثره بالذكاء والموهبة. وكمُتابِعه لتجارب العديد من شعراء جيلي من الأمريكان الذين ينحدرون من أصول عربية. الشعراء الذين يتوجّهون بكتاباتهم للقارئ وللمُستَمِع الأمريكي أو الناطق باللغة الانكليزية فقط، لاحظتُ هذه النّزعة القوية في تجاربهم الشعرية أمثال الشاعرة الأمريكية من أصل سوري – د. مهجة قحف – التي تلعب على هذا الوتر في نصوصها ، جامعةً مابين تناقض الحضارات الذي يولِّد روح الفكاهة ، بل وتبعث تلك المُفارقات على الضحك أحياناً حين تكون نابعة من روح التناقض ، لكنها تؤدي دورها الحضاري وإن كان بسيطاً كاختلاف الطقوص الدينية . في قصيدة لها بعنوان: ” جدّتي تغسلُ قدميها في مغسلة الحمّام في سيرز” – سيرز هو سوق مغطى شهير في أمريكا – كل هذا بغرض الوضوء والسيدات الأمريكيات ينظرنَ إليها باستهجان واعتبار هذه قلة نظافة تجلب الباكتيريا والجراثيم. طلبت جدتها التي لاتتقن الانكليزية أن تخبرهم بأن قدميها اللتان تغسلهما خمس مرات يومياً هما أنظف من المغسلة !!
والشاعر حيّان شرارة أيضاً الأمريكي من أصل لبناني ، والشاعر الأمريكي الفلسطيني حسن نعواش مثلاً تناولا قضايا وطنية انسانية تحاوِر الأمريكان باللغة التي يفهمونها . ورغم كل شيء، هناك خطوط حمراء ندركها تماماً هنا ، أنّ الحرية ضمن مفهوم حوار الحضارات وإن قيلت في نطاق إبداعي شعري، قَد لاتُعتبر حرية بل تشجيع على الارهاب أحياناً إن كان يحمل في ثناياه فعل مقاومة ولو عبر قصيدة!!! نتساءل أحياناً : هل يمكن فصل الحوار الحضاري الشعري عن مبدأ ما نؤمن به كشعراء عرب أمريكان؟!! كأن نتناول قضايا كبيرة تتعلّق بتحرير شعوبنا المقهورة وعذابات الانسان العربي ؟!! قلة من الشعراء الأمريكان من أصل عربي، تناولوا هذا الجانب بعمق إذ يكمن في داخلهم خطوط حمراء تتجاوز في كثير من الأحيان مفهوم وحوار أو تناقض الحضارات لتدخل في صلب السياسة.
و ماذا عن قصائدك المكتوبة بالإنكليزية..كيف تلقفها القارئ الأمريكي و كيف كانت أصداءها هناك؟
لقد تلقيت ردود الأفعال بشكل مباشر ومحسوس على شعري من خلال مشاركاتي الشعرية في بعض المؤسسات الثقافية العربية الأمريكية والمعارِض والجامعات الأمريكية. هناك القصائد التي كتبتها باللغة الانكليزية ، وتلك التي قمتُ بترجمتها إلى اللغة الانكليزية والثانية كانت الأقوى – هكذا سمعت من بعض النقاد . ولاعَجَب- فاللغة العربية هي لغة الشعر تتفوق – شعرياً – في رأيي، على اللغة الانكليزية التي هي لغة عصر المعلومات وعصرالاكتشافات والمصطلحات .
المستمع الأمريكي يمتلك حساسية فطرية للشعر ،يمتلك حالة نقاء. الشعر لديه إبداع له قدسيته، له مكانته ولذلك كنتُ أرى المستمعين الأمريكان والأجانب بشكل عام ، يتحسسون ليس فقط نبض الكلمات، بل نبض أنفاس الشاعر وطريقة إلقائه للشعر. لقد سمعتُ تعليقات رائعة من بعض المستمعات والمستمعين الأمريكان يُقيّمون أدائي الشعري على أنه يتجلّى في طاقَتَين إبداعيتين: الأولى قوة التأثير في الإلقاء ، والثانية الحس الشعري الذي تفاعلوا معه بجمالية واحترام لم أكن أتوقعه أو أحلم به. كنتُ أُصْدَم عندما أرى أمامي إحدى الأمريكيات تبكي من إحساسها بالقصيدة . وعلى سبيل المثال ، عند سماعها قصيدة كتبتها باللغة الانكليزية بعنوان:
( الملائكة المتّشحات بالسّواد) فيها وصف مشاهد حقيقية حتى العظم ومؤلمة للأمريكان الذين لايمكنهم تصوُّر مشهد الأطفال الذين يعودون من مدارسهم ويرون آباءهم مكفّنين بالأعلام دليل الموت والشهادة… ونزيف السلام في فلسطين مشيرةً إلى حالة طوفان الملائكة المتشحات بالسواد فوق المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ومهد السيد المسيح كرمزٍ للحَداد… الخ . بصراحة شديدة ، كنتُ أنتقي القصائد والنصوص التي تتناسب مع أقصى إمكانية لتفاعلهم معها . وأنا أدرك خلفية المجتمع الأمريكي الفكرية والنفسية . كنتُ دائماً أخشى الغربة بيني وبين الجمهور الأمريكي أو الغريب عن ثقافتنا ولغتنا العربية. لأنّ شِعري مختلف عن شعر الأمريكان الذي هو أقرب إلى السرد والصحافة والخاطرة والنكتة الطويلة و القصة منه إلى الشّعر. لاأتحدّث هنا بصفتي ناقدة بل بصفتي مستمعة وقارئة للشعر الأمريكي المعاصِر. ليس كله غث بالتأكيد لا، ولكن إحساسي بأنه ليس شعراً يُخيفني وأتساءل : هل أنا حقاً أجذّفُ بسفينتي عكس التيار؟!!
لقد تربّينا على الشّعر العربي الغني بجمالياته الخصبة التي لايمكن أن تفارقني بل لبسَتني كجلدي رغم مفارقات دراستي الأكاديمية باللغة الانكليزية و قضاء نصف عمري تقريباً في بلد العم سام. إنني أطلق العنان لروحي وللقصيدة وأشعر بعدها أنني غير مسؤولة عن النتائج!!! لأنّ الشّعر ببساطة شديدة، لايُحاصَر ولا يؤَطّر إلا بما هو إبداعي وأصيل وجميل.
السؤال الرابع :
– كشاعرة مغتربة ..كيف تعيشين همَّ الوطن بآلامه ومآسيه وشجونه، ..و هل من قصائد تفجرت عندك تعبيرا عن ذلك الهمّ ؟
في كل تجربة انسانية أخوضها، يكون الشعر هو آخر مرحلة من مراحل -المَرَض -الذي أعيشه، حزناً كان أوفَرحاً أو مُجاذَفة في عالم شعري ما ، يأخذني ربما إلى فلسفة ذاتي والآخر عبر القصيدة!
جرحُ الوطن هو واحدة من تلك التجارب الانسانية الأكثر فداحةً وعمقاً في ذاتي الشاعرة. هو حالة نزيف إنساني متواصِل و لايمكن فصله عن جرح أية بقعةٍ داميةٍ تضج بألمها وصراخها في العالم العربي بل في العالم. الحروب الصغيرة والكبيرة ، الدائمة والمؤقتة، الثابتة والمتحرِّكة، الباردة والنارية ، كلّها تنطوي على مأساة إنسانية واحدة تجني آلاف ، بل ملايين الضحايا وتحصد الخراب والتشويه الجسدي والفكري والجغرافي والتاريخي.
ومع ذلك ، لم أعتد أن ألتزِم في رهْن أية قصيدة لي بحدَث سياسي معيّن ونادراً ما أرصد حركة الحدَث في وقته فهذا من شأن الصحافة على ماأرى ، و السبب الأهمّ أنني حينها أكون مُشتعِلة ولاأريد أن أكتب نصوصاً مُحْتَرِقة!!!!
لقد نشرت العديد من القصائد التي تحمل هذا الهم وأنا أعيشها بتفاصيلها وقربها لكأنّ احتراقات الغربة ونزيفها هي جزء من احتراقات الوطن ونزيفه:
يشاهدني قاسيونُ
كطفْرةِ نورٍ غريبهْ …
أطيرُ على مفرقِ الصّبْحِ
يأخذُ النّورَ منْ وجْنتيكَ
وأُثْمرُ بشْرى على ساعديكَ
ألمُّ الرّمادَ
وأحلمُ حلمي الخرافيَّ
يفْتحُ شرفتَهُ عالياً
ويضيئُ على أُفُقٍ منْ حدادْ …
************
رأيتُكَ بوحَ السّنابلِ
والأُمْنياتْ …
رأيتُكَ زهْراً يفوحُ
وغيماً يُساقطُ نوراً
يعطّرُ كلَّ الجهاتْ …
رأيتُ خطاكَ وقامتَكَ الضّوءَ تعْلو
رأيتُ الجراحْ …
سألْتُ عنِ الحزْنِ
في قعْرِ عينيكَ
لكنّني غبْتُ في النّورِ
يخْرجُ منكَ اشْتياقاً
ويغْمرُني بالصّباحْ …
رأيتُ على السّفْحِ خدّيكَ
يزْدهرانِ نجوماً …
أتقْبلُ هذي الغريبةَ ،
هذي القريبةَ
والحُبُّ في الرّوحِ صفْصافةٌ
وغبارُ الغريبةِ دمْعٌ تهادى
على درَجاتِ الرّياحْ؟؟!!…
السؤال الخامس :
-ما معنى مصطلح الشعر النسائي ، أو الأدب النسائي ، هل ترضين بالتوصيف أو الاصطلاح؟
الشعر النسائي أو الأدب النسائي هو واحدة من الحركات الأنثوية التحررية العالمية. هناك حركات تحررية أنثوية عالمية أخرى مثل الأنثوية الليبرالية، الأنثوية المابعد حداثوية، الأنثوية الدينية، الأنثوية الاجتماعية، وغيرها.
إنّ توصيف الأدب النسائي أو الشعر الأنثوي أو غيرها من المصطلحات ، ليس منبعه شرقياً ولا أتَّهِم توصيف النقاد العرب المعاصرين له بهدف التقليل من شأن المبدعات العربيات ، هُم تَبَنّوها من النقد الأدبي والفلسفي الغربي وأيضا من نماذج الأدب والشعر والفكر والنقد الغربي الأنثوي الذي سبق في الواقع الحركات الأدبية والشعرية النسائية العربية تحديداً من ناحية سعة انتشارها وإفساح المجال لها للتبلور والازدهار.
ومن منطَلق أن هذه الحركة جزء من الحركات التحررية الأنثوية ، هذا يعني تميُّزها وخصوصيتها لا محدوديتها كما يرى البعض .
إذن ، النساء المبدعات والناقِدات والرائدات في العالم ، هنَّ اللواتي أسهمنَْ في هذا التوصيف كوسيلة للتحرر الفكري والثقافي والانساني والابداعي. بل ونجحنَ إلى حدٍّ بعيد!!!
علينا برأيي أن نعزف على هذا الوتَر الحساس بقوّة ، لا أن نتنكّر له على أنه إساءة للأنثى المبدِعة ، بل هو فرصة لإثبات خصوصيتها وبراعتها في العزف على هذا الوتر الساحِر بإبداع جدير بالاحترام ، لأنه صادِر عن قلم أنثوي له خصوصيته ، و لأنه إبداع حقيقي متميِّز.
ويبدو لي أنّ حالَتَيّ الصِّراع والتناغُم – الجميل – بين الرجل والمرأة شكّلا ويُشَكِّلا أفقاً إبداعياً خصباً ليس فقط لدى المرأة المبدعة بل الرجل المبدِع أيضاً – الذي لربما يوصَفُ شعره أو أدبه بالانثوية حين يدافِع عن قضايا المرأة مثلاً! – وتبقى المرأة المبدِعة تحديداً أكثر حساسية للطرْق على لغة المشاعِر و البحث عن الذات المبدعة في خِضمِّ معركة الحياة التي تتقاسم رغيفها مع الرجل .
ومن الأدب النسائي الغربي أذكر ، الروائية فيرجينيا وولف التي كتبت مقالتها الشهيرة
( مكان خاص للذات) ، تساءلت فيها عن إمكانية النساء إبداع أعمال بقيمة أعمال شيكسبير. وقد بيّنت من خلال شخصية
( جوديت) التي اخترعتها كمثال على أنها أخت شيكسبيرلتثبت بأنّ امرأة بموهبة شيكسبير تمّ التنكّر لموهبتها ولَم تُعطَ ذات الفرصة لتطويرها لأنّ الأبواب كانت مُغْلَقة للنساء المبدعات في ذلك الحين. والمُفارَقة هنا تكمُن بأن وولف لاقت شهرة و اهتماماً بأدبها ولازالت لم يحلم بها الكثير من أدباء عصرها والعصر الحاضِر أيضاً.
وفي فرنسا اشتهرت الأديبة سيمون دوبوفوار بكتابها الشهير ( الجنس الآخَر) ، الصادر عام 1949 . وأوّل ماكتبته أنها امرأة، وتبيّن لها أن عليها تحديد ماذا يعني كونها امرأة. وهذا كان الهدف من الكتاب. الكتاب يتناوَل طريقة معاملة النساء على مرّ العصور. وقد اعتُبِر من الكتب النسائية الهامّة التي مهّدت للفترة التحررية الأنثوية الثانية في الأدب التي امتدت من الستينات وحتى الثمانينات. دوبوفوار تتساءل عن معنى جعل المرأة بتعبير ( الآخَر ) ، الجنس الأنثوي المُنْحَرِف عن ( الطبيعي) الذكر!
أما الصحفية الأمريكية سوزان فلودي المولودة عام 1959 ، فقد حصلتْ على جائزة بوليتزر للصحافة عن مقالتها ( الحرب الخفية ضد النساء الأمريكيات) . ولاتختلف برأيي بمواقفها عن مواقف الكثير من الكاتبات والمبدعات العربيات اللواتي خطونَ خطىً جريئة في الدفاع عن حقوق المرأة المشروع في العمل وبأجور متساوية مع الرجل وبظروف انسانية لائقة وأمور أخرى لامجال لذكرها الآن لربما تكون أخطر من ذلك بكثير!
السؤال السادس :
– لك موقف معين من الحداثة و شعر الحداثة..هلا شرحت لنا حيثيات هذا الموقف؟
كل حالة إبداع متفرِّدة في الشعر أو غيره هي حداثة! الابداع على ماأرى هو حداثة لأنه بكل بساطة يأتي بنتاج تجربة إنسانية غير مسبوقة وليست تقليد لغيرها .
أن يكتب الشاعر قصيدة متفرِّّدة تحمل خصوصيته وبصمته كشاعر له تجربته وثقافته ورؤيته وبعده الانساني الخاص ، حداثة..
أن يبدع قصيدة حقيقية وليست مزيفة هو أهم شرط من شروط الحداثة برأيي.
ماذا يعني؟
أن تنصهر القصيدة بتجربته الانسانية كشاعر مُعاصِر ، لا أن تكون صدى أو تقليد لشاعر آخر مهما كان حداثياً – شرقياً أو غربياً –
أن لاينجرّ وراء أوهام مرَضية وضعها لنا الغرب على أنها حداثة وماهي بذلك!
مثلاً :
جاء تريستاني تزارا بتيار ( الدادائية) وهي في الواقع جنون لاعلاقة له بالحداثة. هل يمكن أن يخلق ابداع من عدمية، عبثية، لاشيئية،ابتذال؟!!
هل مثلاً قصقصة ورق جرائد بكلمات منفصلة ووضعها في كيس ثم انتقاء الكلمات من الكيس لاعلى التعيين ورصفها كيفما اتفق يشكّل قصيدة حداثية ؟!! هذا تخريب للشعر وللشاعر ولاعلاقة له لابالحداثة ولابغيرها هو محض جنون!!
التيارات اللاواعية في كتابة الشعر . هل هي كلها حالات حداثية ؟!!
مثلاً: هل ممكن للشاعر مهما كان موهوباً أو غير موهوب ، أن يكتب تحت وطأة مخدر أو مشروب كحولي أو تنويم مغناطيسي أو حالة لاوعي من أي نوعٍ كان، ويخرج بنصوص غريبة إلى حد الهلوسات والجنون ويُسمّي ماكتَب قصيدة حَداثية؟!! . هل هذا عمل ابداعي حَداثي حقيقي؟!! حين تحاور أندرية بريتون، مؤسس الحركة السوريالية مع فرويد ،مؤسس نظرية اللاوعي وعلم التحليل النفسي لساعات ، خرج وقد خابت آماله فيما يتعلق بمفهوم فرويد للأعمال الأدبية ، رغم أنّ الحركة السوريالية استوحت من نظرية فرويد عن الأحلام والعقل اللاواعي، وراحت تروِّج لمشروعية الكتابة الاتوماتيكية التي تسجل ما يدور في باطن اللاوعي كما هو بدون أي تدخل للعقل الواعي الذي شبهوه بالبوليس، وبالمخابرات! صحيح أنّ حالات اللاوعي في الكتابة تأتي بأبعاد لامتناهية في الصدق لتجربة الشاعر ولكن على أن لايتوقف عندها ، بل تكون هي المسودة الأولى لقصيدته!!!!!
شرط الحداثة الحقيقية في الابداع أن يتحكم الشاعر بقصيدته فيما بعد عن وعي، بعد أن أفرغ محتويات لاشعوره الذي كثيراً مايكون مشوّهاً لغوياً و جَمالياً . الشعر فن وليس مجرد حلم فإن تحكَّم النص بالشاعر ، ولم يكن قادراً على التحكم بلغته ولابإبداعه على الاطلاق ، حينها لاقيمة إبداعية حقيقية لقصيدته !!
أن يكون للشاعر الحداثي عالمه الشعري الخاص ، أي يكتب قصيدته من آفاق تجربته وخصب مخيلته. وأن يبرع في التصوير والأداء اللغوي المتجدد والثقافي العالي متجاوزاً ما سبقه من الشعراء هو الحداثة..
تتحقق الحداثة لدى الشاعر العربي برأيي أيضاً حين يكون دارساً ومتعمقاً بالشعر العربي وفنونه قديمه وحديثة ومضطلعاً أيضاً على آثار الشعراء الغربيين ومدركاً للمدارس النقدية العربية والغربية. لماذا كل هذا؟!!
إن كان لايعرف آثار الشعراء والنقاد القدماء والمعاصرين، فكيف بإمكانه تحديد ماإذا كان نتاجه الشعري حداثياً أم غير ذلك؟!!
حين يحمل الشاعر العربي المعاصِر إرثه الشعري القديم ويستوعبه تماماً ، ويكون منفتحاً على التيارات الحداثية العالمية بوعي ، ستنصهر تجربته الشعرية على أفضل مايكون الانصهار في روحه المبدعة،و سيعطيه هذا حَصانه من الانزلاق اللاإرادي للتقليد الأعمى لأية حركة شعرية مزيّفة، يعتقد واهماً أنها حداثية وماهي بذلك.
السؤال السابع :
– قلت في إحدى حواراتك :”كل شيء في عالمي منذ الطفولة وحتى الشباب , كان يقف ضد أن أكون شاعرة”.. هل عانيت كإمرأة مبدعة من ضيق المساحة المتاحة لك إبداعيا؟
أؤكِّد أنني قلتُ هذه العبارة ، وقلتُ أيضاً مايلي :
كل شيء كان متوفراً في مكتبة والدي من روايات عالمية وعربية, فلسفة , سياسة, تاريخ, طب, علم نفس, وماوراء علم نفس, دين….توسعت مداركي وثقافتي من خلالها دون أن أقرأ ديوان ِشعر واحد !
عرفت الشعر في المدرسة, ولم يرق لي كثيراً. بل كنت أراه سمجاً ,لايتناسب مع شخصيتي الحالمة.
بدأت الكتابة وأنا في العاشرة من عمري. كتابتي كانت عبارة عن مذكرات يومية, بل إنها طقوس يومية كنت أعيشها. كان دفتر مذكراتي هو صديقي الحميم الذي أبثه همومي اليومية دون خوف. كنت أشعر بأني في حالة حلم طفولي دائم يتجسد عبر الكتابة. منذ السادسة عشرة من عمري تقريباً بدأت أكتب نصوصاً لم أستطع يومها أن أحدد ماهيّتها! كيف لي أن أعرف ولم يوجّهني أحد على الاطلاق في طريق الشعر. بل أذكر بأنّ أهم شاعرين أثرا قلمي وأحاسيسي حينها, هما جبران خليل جبران والشاعر الهندي طاغور…… وذكرتُ أيضاً بأنّ جو منزلنا كان علمياً بحتاً . كان والدي مدّرساً حازماً لمادة الرياضيات لكأنها المادة الأهم في العالم! وإخوتي جميعاً نجحوا في دراساتهم العلمية. ووالدي رفض حتى قبول فكرة دخولي الأدب العربي منذ اختياري للفرع الأدبي في المرحلة الثانوية بل الأدب الانكليزي!!!. كنت مولعة باللغتين العربية والانكليزية في الواقع ولكني اكتشفت بعد سنوات طويلة أنّ اللغة الانكليزية هي لغة العلم والمصطلحات والعربية لغة الشعر والخيال.
معاناتي كانت الغربة التي رافقتني منذ طفولتي في محاولتي القبض على ملاك الشِّعر الذي كان يفصلني عن أجنحته الشفافة ألف باب وباب لسنوات طويلة و ليس لأنني ( امرأة ) مبدعة في جو ذكوري مُحافظ يضيّق الخناق عليها. لم أعانِ من هذه الحالة على الاطلاق لا كإبنة ولا كَزوجة. بل على العكس كان والدي –رحمه الله- يحضرجميع المهرجانات الأدبية الشبابية التي كنتُ أشارك فيها قبل سفري إلى الولايات المتحدة ويشجعني إلى أبعد الحدود ويتابِع جميع نتاجي الشعري وظل يشجعني على الابداع والنشر حتى آخر لحظة من حياته.
السؤال الثامن :
– كيف تعامل النقاد مع تجربتك الشعرية..هل قرؤوا شعرك كما أردت له أن يقرأ؟
حتى هذه اللحظة، لم ألمس دراسة نقدية شاملة ومعمَّقة تتناوَل تجربتي الشعرية بتفاصيلها . يبدو أنّه لم يَحِن الوقت بعْد!!
لقد نُشرت العديد من المقالات الصحفية حول تجربتي و دواويني الشعرية. منها ماأدهشني بعمقه ووصوله إلى صلب تجربتي الشعرية، ومنها ماكان هزيلاً لايعبّر عنها. وهذا طبيعي ، فالصحفيون ليس بالضرورة شعراء أو نقّاد . وحول أوّل قصيدة كتبتها على الاطلاق ( ومضات من وحي شاعِر) ، نُشرت في جريدة تشرين السورية وتناولها بالنقد في ذات الصحيفة، الصحفي الناقد والأديب القدير وليد معماري. وكانت في الواقع أحد الحوافز الهامة لاستمراري في طريق الشّعر رغم ضبابية الغربة الموحشة التي أبعدتني سنوات عن طريق الشعر وأبعدت عني النقاد أيضاً ، حيث المَثَل الشعبي البسيط هنا، ينطبق عليّ تماماً: البعيد عن النظر، بعيد عن القلب.. لاأنا ولا شِعري لم نكن في متناول القراءة والحوار المتواصِل المثمِر لعشرين سنة قضيتها في الغربة ولم أنشر في الصحف إلا القليل من القصائد. ومازال يتملّكني الاحساس بأنني لستُ في الواقع متواجدة على الساحة الشعرية العربية كشاعرة لها روح وكيان وشخصية وحضور، لكأنني مجرد حبر على ورق (طبعاً لولا تواصلي عبر شبكة الانترنيت منذ أربع سنوات تقريباً لربما لم يكن قد سمع بي أحد حتى هذه اللحظة! ).
يُحزنني جداً هذا الأمر وآمل أن تسمح لي الظروف باللقاء المباشر مع النقاد والشعراء والقراء العرب يوماً ما، حينها لن يكون لبصمتي الشعرية أي لبس أو شك أو تغييب اغترابي شعري غير مقصود بالطبع.
الباحثة والأستاذة الجامعية د. لطيفة حليم تناولت تجربتي الشعرية بشكل جزئي في أطروحتها حول شاعرات مابعد جبران . كنتُ واحدة من عشرات الشاعرات المغتربات اللواتي تناولت بصمتهن في الشعر. أيضاً قامت بتدريس طلابها نماذج عديدة من شعري لعدة سنوات ولاتزال .وآمل أن أكون جديرة بهذا وأن أترك على المدى البعيد أثراً شعرياً متميّزاً لدى النقاد والقراء والجيل الجديد على حدٍّ سواء، ولدى أهم وأخطر ناقِد وهو الزّمن .
نُشر الحوار في موقع رابطة أدباء الشام وفي موقع الشرق الأوسط