تقديم لأمسية الشاعر عدنان الصائغ – إباء اسماعيل
نوفمبر 2nd, 2008 بواسطة إباء اسماعيل
تقديم الشاعرة إباء اسماعيل
للأمسية الشعرية التي ألقاها
الشاعر عدنان الصائغ
في مكتبة فورد بمدينة ديربورن/ ميتشغن – الولايات المتحدة بتاريخ 13/10/ 2008
سيبدأنا بعد قليل ، ليفتح أضواءه القُزَحيّة بُعداً آخَر لموجات أرواحنا حين تنتظر شظاياه ونخيله وياسمينه وأوراقه وعِراقََه :
العراقُ الذي يبتعدْ
كلما اتسعتْ في المنافي خطاهْ
والعراقُ الذي يتئدْ
كلما انفتحتْ نصفُ نافذةٍ ..
قلتُ : آهْ
والعراقُ الذي يرتعدْ
كلما مرَّ ظلٌ
تخيلتُ فوّهةً تترصدني،
أو متاهْ
والعراقُ الذي نفتقدْ
نصفُ تاريخه أغانٍ وكحلٌ ..
ونصفٌ طغاةْ
و يقبض على جمر الشّعرلتشتعل أحرفه دفقات حنان :
رفقاً بدمْعاتِ أمي
ففي قلبه…
كلُّ حزنِ الفراتْ
وحين يستيقظ جنون الوطن ، يأبى أن يتوسّد حرائقه أو ينحني لرياحه في القصيدة، بل يجمح ليقاتِلَ ويوقظَنا بكلماتٍ تشبه السكّين حيناً و الورد حيناً آخر. هي باختصار ، هذا المزيج المدهش المتمرّد على العالم ، هذه العجينة الشعرية الروحية التي تختصر كوميديا الكون ورومانسيته، وواقعيته المفرطة وتراجيديته الرعناء! وهذه برأيي واحدة من أشدِّ الملامح الشعرية حضوراً في نصوصه:
تجيئين في هدأةِ الليلِ
بيني، وبين الرصاصةِ
وجهكِ ..
والثرثراتُ
وهذا الوميضُ القتيلْ
وبين دمي، والقصيدة
نافذةٌ …
طرزتها زهورُ البنفسجِ
كانتْ طيورُ الصباحِ…
…… تحطُّ أمامَ سريركِ
مفتونةً بانثيالِ الضفيرةِ
مجنونةً بالغصونِ البليلةِ
ثمَّ تحطُّ على موضعي
وتموتُ… بلا ضجةٍ، أو رثاءْ
وقصائده – حبّات اللؤلؤ هذه-، يحلو له أن يهديها إلى مَن يحب من الشعراء والأوطان والأشخاص .. هي عالَمه المتفرِّد ، تشبه باقات الورود التي توضع على أضرحة الشهداء أو تُهدى إلى حبيبة أو صديق كتلك التي أهداها إلى الشهيد محمد عبد الزهرة ياسين، الشاعر سامي مهدي ،الشاعر عبد الرزاق الربيعي، فضل خلف جبر ، الشاعر عبد الوهاب البياتي وغيرهم كثير … وأمّا هذا الوطن المُحَيِّر، تصبح فيه القصيدة وطنه الأشدّ توقاً واحتراقاً به يسكنه إلى حدِّ الجنون :
سوفَ تحصي الدراهمَ، والأصدقاءَ
فتدركُ أنكَ،
وحدكَ في آخرِ الليلِ
وحدكَ، لا حانةٌ تتذكّرُ وجهكَ
لا امرأةٌ سوف تؤويكَ
لا شقةٌ…
غير بيتٍ صغيرٍ… بإحدى القصائدِ
تسكنهُ…
والجنونْ…
والقصائد تصبح جزءاً لايتجزأ من الشاعر. تتشرد معه وتقاسمه الحزن والبرد والمِحَن . ولكن هل حقّاً راحة الشاعر تكمن في أن يستريحا ؟!
(… إلى مَ تظلُّ القصائدُ مثلي مشرّدةً؟
في المقاهي…
وأرصفةِ الذكرياتِ
تقاسمني حزنه
وأقاسمها البردَ، والجوعَ، والأمنيات
أما آنَ أن نستريحَ معاً…!؟ …)
وتشتد حدّة الاختزال الدلالي للنص الشعري الذي يأتينا على شكل ومضات لحالات الانسان الشاعر في غربته ، في منفاه، و في توقه الدائم لاعتراش الوطن/ الحبيبة … هذه المعادلة التي تشبه المستحيل!
أحملُ منفاي إليكِ…
ولا أدري
انّكِ أنتِِ… المنفى
وفي مجموعته الشعرية، مرايا لشعرها الطويل : يقول الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي في مقدمة الكتاب: ( وهو يشردُ في انكساراتِ حرفِ العينِ والمحطات ويتحولُ إلى قطرةِ مطرٍ، يصرخ (لا أملكُ خياراً. الكتابةُ لحلِّ ديوني والقصيدةُ لزيادةِ شجوني، وبينهما، سأضيّعُ الكثيرَ من سنواتي عبثاً من أجلِ وجبةِ كلماتٍ في حانةٍ تملؤها الفئران).
” لردمِ المسافةِ بين عذابهِ الخاصِ وعذابِ الكتابةِ كموقفٍ وجوديٍّ انسانيٍّ. وبهذهِ النقلة يتّحدُ ما هو خاصٌ وعامٌ، وما هو شعري وما هو لا شعري، في خميرةٍ جديدةٍ وتخوم متقدمة”
وهذه المُفارقات الانسانية الشّيقة التي تأخذنا إلى أبعادٍ بريئةٍ وذكية في آن. لعلها لقطة لفوتوغرافيا النفس البشرية إن صح التعبير:
قالتْ لي: كمْ عمركَ يا شاعري
فرحتُ أعدُّ على خفقِ قلبي
أحزانَ الشوارعِ، والكتبَ، وقائمةَ الديوانِ، والثكناتِ،
والنساءَ، والقنابلَ، وحبوبَ الفاليومِ، والمطرَ
ظلتْ تبكي…
فاخطأتُ في الحسابْ
ياه…
ابعدي دموعَكِ الحمقاءَ عن قلبي الأحمقِ
وتعالي…
نعدُّ من جديد…
مرايا لشعرها الطويل فيها شيء من تراتيل نزار قباني العشقية والغزلية مع بصمة الصائغ الواضحة دماً ينزف قصائداً تفوح منها رائحة الانسان الشاعر الذي يبحث عن وجوده الأجمل في نصفه الآخر:
قلتُ:
قميصكِ غابةُ فرحٍ وياسمين وموسيقى
وقميصي نهرٌ جفَّ
تفتحين أولَ الأزرارِ
فيساقط المطرُ دافقاً، حنيناً، مرتعش
على زجاجِ النافذةِ
أفتحُ أولَ الأزرارِ
فتساقط العصافيرُ الميتةُ
على سريري
ومن انكسارات حرف العين : نسمع صوت الشاعر والعاشق والفيلسوف الذي يستدرجنا بكل بساطة وشاعرية وعمق إلى متاهاته ومتاهاتناالحالِمة:
أقولُ الدهشةَ وأقصدُ الكتابةَ. أقولُ الكتابةَ وأقصدُ ذكرياتكِ وجنوني. أقولُ الحدائقَ وأقصدُ زهرةَ الياسمينِ. أقولُ الشوارعَ وأقصدُ شباكَ الأميرةِ المطلَّ على غابةِ قصائدي. أقولُ الصباحَ الجديدَ وأقصدُ زهورَكِ الصباحيةَ على طاولتي. أقول أسلاكَ الغيمِ الماطر وأقصدُ صوتكِ الشهي، مرتبكاً يمطرني. أقولُ اكتبي انعكاساتكِ على مراياي وأقصدُ أوراقَكِ الأنثويةَ الممنوعةَ من البوحِ
أنا شاعرٌ، وأقصدُ: رجلاً مهشّم
وعطركِ مرايا وبوحٌ وانكسارٌ…
ماذا أفعلُ؟
اعرةُ المسكونةُ بالرحيلِ
قلتُ: علّني أزيحُ غمامَ الحزنِ عن رصيفِ شفتيكِ
فوجدتُ حزني يتشظّى
ويمطرُ قصائدَ وياسمينَ وفوضى
آهٍ… أيتها الفاتنةُ
أيها الحرفُ الممنوعُ
الحرفُ الموصولُ، بالقصائدِ… حتى تخوم البحرِ
الحرفُ الوحيدُ،… حتى ذبول الغروبِ على طاولتي
الحرفُ الناحلُ،.. كشجرةٍ سرقوا أحلامها
وفي غيمة الصمغ كما في معظم أعماله الشعرية الأخرى، يطرح الأسئلة التي تكشف أسرار الانسان / الشاعر في عملية بحثه الدائم عن عمق معنى وجوده الحقيقي في جميع دواوينه التي يصعب في هذه العجالة أن نرصد جغرافيتها الشعرية والابداعية :
معادلةٌ صعبةٌ
أن أبدّلَ حلماً، بوهمٍ
وأنثى،.. بأخرى
ومنفى، بمنفى
وأسألُ:
أين الطريق!؟
لقد وجدتَ طريقك أيها الشاعر معبّداً بالأشواك والأشواق، حين لامّستَ احتراقات الشعر والانسان والوطن، حين زرعتَ في ذواتنا الورود والياسمين بدل الرصاص ، ، و حين نزفت أحلامك في المنافي لتضيء عراقَك، عراقَنا ، بل مدناً وأوطاناً أخرى كثيرة كبيروت ودمشق :
أكنتِ اشتهائي
وكانَ الطريقُ.. إلى قاسيون
يحاصرهُ الدركي
كلُّ المخافرِ.. تعرفُ وجهي
فكيفَ التقائي.. بسيدةِ البحرِ
في شفتيها..
امتزاجُ القصائدِ.. بالدمِ
والعشقِ.. بالموتِ
والنهرِ.. بالشهداءْْ
وكيف التقائي..
بنرجسة …
في الجنوبِ
وما بيننا..
البحرُ.. والقتلةْ
وهاهي ثلوج منفاكَ تتألق في عيوننا شموعاً دافئةً من الشعر والحبّ لم تضلّ طريقها إلينا .